عفرين بوست-الشرق الاوسط
الكثير من الضجيج الذي يثيره إردوغان في تركيا وفي المنطقة وصولاً إلى نيوزيلندا عندما وظّف الجريمة البربرية في أجندته الانتخابية، لم يعد يحجب ممارسات نقلت بلاده من حال إلى حال. بلد محوري في المنطقة وفي حلف شمال الأطلسي، يُحكم بشعبوية وتحريض وفرمانات سلطانية، ويتم إلصاق صفة الإرهاب بنصف الأتراك على الأقل، ويُطرد عشرات الألوف من وظائفهم وتضيق السجون بالمتهمين. حاكم بصلاحيات مطلقة معه كل شيء مباح، من أجل أن تطول إقامته في القصر. أراد الانتخابات المحلية استفتاء على شخصه وممارساته السلطوية، فوجهّت له رسالة مدوية عندما هزمته صناديق الاقتراع في المدن الكبرى لا سيما إسطنبول التي كانت بداية مشوار صعوده السياسي وربما باتت بداية مشوار سقوطه. يعرف إردوغان أن هناك صفحة جديدة قد فُتحت، لكنه يصرُّ على إنكار الهزيمة لأنها المؤشر على احتمال تقصير أمد حكمه، فيمضي إلى ممارسة الضغوط الفجة بهدف سرقة انتصار المعارضة، لإبعاد الفائز أكرم إمام أوغلو النجم الجديد في السياسة التركية، ويَتعهد بعد أكثر من شهر بإعادة الانتخابات في إسطنبول!!
الهَوَج تسمية تنطبق على السياسات التركية التي انتقلت خلال أقل من عقدين من نوعٍ من الديمقراطية إلى مزيج من ديكتاتورية فردية ودراما التحريض. منذ حكاية الانقلاب في العام 2016 وتركيا تتغير، الذعر يحرك الحكم ويوجه سلوكه وتتالى معه القرارات الهستيرية، وتتكشف كل يوم الدلالات عن استبداد ضار. المئات من الصحافيين في السجون، والحريات معلقة، ويُفصل من الوظيفة أكثر من 150 ألفاً، بينهم كبار القضاة وعمداء الجامعات… ويُزجُّ أكثر من 77 ألفاً في السجون، والملاحقات والاعتقالات في صفوف العسكريين مستمرة، ويفصل نحو 15 ألف ضابط، بينهم ثلثا ضباط الطيران، وتَمنح «أحدث القوانين» الرئيس حق تعيين رؤساء الجامعات والقضاة واختيار القادة العسكريين.
يستغني الحاكم المطلق عن «رفاق الدرب» مثل عبد الله غول، وأحمد داود أوغلو، وتطلق عليهم النعوت إن تجرؤوا وتحدثوا، فكيف إذا اعتزموا البدء بتحرك سياسي كما لمّح أوغلو، فيهددهم إردوغان بتحميلهم «تبعات أفعالهم»، ويقول: «هناك أشخاص يسيئون لنا في الداخل سنحاسبهم»!! وتنحدر مكانة تركيا إلى حدود التحالف مع قطر وإيران، دون أن ننسى تقديم أوراق الاعتماد للقيصر الروسي منذ العام 2016. وتُفتح المعارك الدونكيشوتية مع ألمانيا وفرنسا، فيما التهجمات على مصر والإمارات والسعودية لا تتوقف. ويتقدم مسار الأحداث في الإقليم، فيتفاجأ بالتطورات في ليبيا، حيث لأنقرة الدور اللافت في تجميع وتسليح الإرهابيين، ويشكل سقوط البشير والتغيير المستمر في السودان رسالة أخرى مدوية له.
باكراً بدأ الاستثمار التركي في الوضع السوري لتوظيفه داخلياً، فوفرت تركيا التي تستضيف كل طيف «الإخوان المسلمين» ممراً آمناً للإرهابيين إلى سوريا والعراق، وعملت لتأمين نفوذها في المناطق المتاخمة لحدودها، بوصف ذلك ضمانة الحفاظ على الأمن القومي التركي (…) اعتبرت تركيا الحرب السورية الفرصة لتحقيق أطماعها مباشرة أو من خلال أتباع أطلقت عليهم تسمية «جيش حر»، استخدمتهم في مسار «آستانة» وتعدُّ العدة للاستثمار فيهم عندما يحين أوان التسوية، كشريك في السلطة مع الفريق الحاكم في دمشق. اليوم باتت تركيا موجودة في أغلب الشمال السوري، وهذا ما كان ممكناً له أن يتحقق، لولا الثمن المدفوع من دماء السوريين وعلى حساب ثورتهم وحقوقهم، فكانت الهدايا الروسية التي بدأت فور سقوط حلب، بعدما سلّفت أنقرة إلى موسكو سحب المسلحين التركمان وكل أنصارها، مقابل الضوء الأخضر الروسي بالسيطرة على جرابلس والباب، وصولاً إلى أعزاز، ومقابل شمال حمص والغوطة وسواهما، أجازت موسكو لأنقرة اجتياح عفرين في العام 2018 وتعزيز وجودها في إدلب. وباتت تركيا تسيطر على منطقة تعادل 10 في المائة من مساحة سوريا، تضم نحو ربع سكان سوريا، أي نحو 6 ملايين بين مقيمين أو لاجئين إلى تركيا. إنه منحى الهيمنة الذي نبّه منه جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي من أن «لا شيء يمنع تركيا من البقاء في إدلب على غرار بقائها منذ عام 1974 في شمال قبرص»!!
تتمسك أنقرة بوجودها المباشر في سوريا، وتعتبره تعويضاً عما عجزت عن تحقيقه في بداية الانتفاضة السورية، من خلال أتباعها «الإخوان المسلمين». والمعروف أنه في العام 2012 كان إردوغان يرى في شخصه الرمز، لمصر مرسي، وتونس الغنوشي، وسوريا رياض الشقفة، وليس أمراً بسيطاً لتركيا الصفعة التي وجهتها هبة 30 يونيو (حزيران) 2013 في مصر، وقبل ذلك نكسة أحلام الهيمنة على سوريا. فأرسلت الدعاة من «الإخوان المسلمين» إلى الشمال السوري للترويج للمثال التركي… لتتسع خطوات الـ«تتريك»، لكن لا شيء نهائي، لأنه مع الضغط الروسي لتفعيل «اتفاقية أضنة» وتزامناً مع الموقف الأميركي ومستجدات شرق الفرات فإن الحصة التركية ستتضاءل، والدليل ما يجري الآن في إدلب وكل منطقة الاحتلال التركي.
يزعم إردوغان أن «تركيا هي الدولة الوحيدة القادرة على ريادة العالم الإسلامي»… وحاول من هذا الباب الهيمنة على الشارع العربي لخدمة تسلطه، وعاد الحديث عن «عثمانية جديدة»، غير أن نهج التسلط ونتائج الانتخابات وصعوبة تسليم إردوغان بالهزيمة فضحت زيف النموذج التركي!! لكن المطامع التركية لم ولن تتوقف، وبالغة الخطورة على المنطقة وعلى بقاء سوريا موحدة، وهذا الأداء يكاد في المخاطر التي يحملها يعادل مخاطر «الفرسنة» التي يقوم به النظام الإيراني المتغلغل في بنى النظام السوري، ويواصل حملة تغيير ديموغرافي وتوطين ميليشياته وإطلاق موجات من التشيع مرفقة بالترهيب وبإغراءات مالية.