عفرين بوست – متابعة
كان استهداف الطيران التركيّ في الأسبوع الأول للعدوان على عفرين إشارة أوليّة إلى أن أهداف الاحتلال التركي تتجاوز ما تم الإعلان عنه، وإذا كانت عملية التتريك والتغيير الديمغرافيّ والثقافيّ والاستيطان تستهدفُ حاضرَ المنطقةِ فالتعدياتُ على الآثارِ استهدفت ماضي المنطقةِ وهويتها التاريخيّة.
استهداف مبكر لآثار عين دارة
استهدف القصف الجويّ التركيّة معبد عين دارة في أولى العدوان، وهو يعتبر متحفاً تاريخيّاً، ما أدى لتدمير الكثير من منحوتاته البازلتية نادرة الوجود، والتي تعود للألف الأول قبل الميلاد والعصر الرومانيّ. وبعد الاحتلال اختفى نصب الأسد البازلتيّ من الموقع، وهو من الحجم والوزن ما لا يمكن حمله ورفعه إلا بآليات ضخمة، وحوّل المسلحون الموقع إلى حقلٍ للتدريب العسكريّ.
تعرضت آثار موقع النبي هوري (سيروس) لعملية سرقة ممنهجة، ويحتوي الموقع على معبد ومسرح روماني وتعرف بالاسم اليوناني (سيروس) وأورد المرصد السوري لحقوق الإنسان، أنّ الاحتلال التركيّ والمجاميع الموالية له وتحديداً مرتزقة “صقور الشمال” قاموا في 10/8/2018 و6/10/2018 و3/11/2018 بأعمال حفرٍ تخريبيّة وعشوائيةّ بالآليات الثقيلة (الجرافات)، ما أدّى إلى تدمير الطبقات الأثريّة دون توثيقها، إضافة إلى تدمير المواد الأثريّة الهشّة كالزجاج والخزف والفخار ولوحات الفسيفساء، وغيرها من الآثار، وكشف المرصد السوري لحقوق الإنسان عن أن “المنقبين عثروا على لوحات فسيفسائية تم تهريبها إلى تركيا بتسهيلات من المرتزقة الموالية لها عبر تجار”.
تنتشر في عفرين أكثر 130 موقعاً أثريّاً صنّفٌ بعضها على لائحةِ التراثِ الإنسانيّ لمنظمةِ التربية والعلوم (اليونيسكو). وتضم (80) تلَّاً أثريّاً، منها 37 مُسجّلاً لدى المديرية العامة للآثار السوريّة بالقرار 244/1981، ونحو 45 تلاً غير مسجل، حسب ما يفيد خبير الآثار صلاح سينو، وتعودُ المواقعُ الأثريّة للفترة الكلاسيكيّة (يونانيّ، رومانيّ، بيزنطيّ).
تنقيب منظم؟
ونشر موقع “صوت سوريّ” تقريراً بعنوان “آثار عفرين تنقيب وتخريب وتهريب”، أورد فيه شهادات حيّة من أشخاص بالمنطقة، ونقل شهادة عن شخص اسمه كمال (اسم مستعار) أحد قاطني المنطقة، قوله إنّ عمليات التنقيب عن الآثار متواصلة بآلياتٍ ثقيلة تحفرُ سفوحَ الجبالِ قرب النهر والمدرج الرومانيّ، وهذا النشاط يكثر خلال الصيف عندما تكون التربة غير متأثرة بالعوامل الجوية. ويضيف: «لا يستطيع أحد أن يسأل من يحفرون لأنَّ معظمهم يحصلون على الحماية من الفصائل التي قسّمت المنطقة إلى قطاعات عسكريّة». وينسجم هذا الواقع مع الفوضى العارمة التي تعيشها منطقة عفرين في مختلف المجالات.
من بين المواقع التي طالتها عملياتُ تنقيبٍ وتجريف كبيرة تبرز تلتا دير صوان في ناحية شران، وجنديرس، جنوب البلدة التي تحمل الاسم نفسه، وشهدت التلتان أعمال حفر وتجريف وتخريب بالجرافاتِ والآلياتِ الثقيلة بحثاً عن اللقى والمقتنيات الأثريّة.
أشار التقرير إلى أنَّ معظم المصادر التي تم الحديث إليها قالت إنَّ فرقاً فنيّة تجري التنقيب ويبدو أنَّ لديها خبرةً طويلةً يعكسها اختيارُ مواقع محددة للحفر، مثل المقابر القديمة التي تعود إلى عصورٍ سابقةٍ، والتركيزُ على مداخلها والبواباتِ الداخليّة لها، ما يؤكّدُ أنّ عمليات التنقيب هنا منظَّمة.
وقال مدير مركز آثار إدلب، أيمن نابو: إنَّ العمليات في تلك المواقع الأثرية عشوائيّة. وأضاف: «لا أعتقد أنها منظمة وإنما استغلال الواقع الحالي من فوضى وغياب القوانين التي تجرم هذه الانتهاكات هو ما أدى إلى تفاقمها».
وأرجع نابو سبب الظاهرة إلى أنّ الفقر والحاجة إلى المال زاد من عدد المنقبين عن الآثار بحثاً عن الثراء السريع، وهي «ظاهرة قديمة تفاقمت حديثاً في المواقع الأثرية بسبب ضيق المساحة الجغرافية الأمر الذي عرضها للتدمير والتخريب وإضافات عمرانية جديدة خلال سكن النازحين فيها».
أبو إسماعيل، أحد ممتهني التنقيب عن الآثار، سبق أن هُجّر إلى ريف حلب الشمالي قبل عامين. يقول من مركز إقامته في ريف إدلب الجنوبي إن عفرين تحوي مواقع أثرية عدة، وخلال عمله مع «زملائه في التنقيب» يجدون قطعاً من الذهب والعملات النقدية والمجسمات الأثرية والقطع الفخاريّة. ويضيف: «اشتريت جهاز الكشف عن الآثار قبل خمسة أعوام وكنت أعمل به في ريف إدلب الجنوبي، وبعد انتقالي إلى ريف حلب توجهت إلى عفرين لأنها تحتوي على أماكن أثرية ومنطقة معمورة منذ مئات السنوات».
يفيد الصحفي المختص بالتراث والآثار عمر البنية بأن هذه المواقع تأثرت بفعل المعارك والأعمال العسكرية والفوضى العامة، وقال: «صارت الآثار سلعة للمتاجرة ومصدر دخل لبعض أمراء الحرب وحتى مافيات دولية متخصصة.
خرائط تفصيليّة وشيفرات ورموز
تقوم بعلميات التنقيبَ فرقٌ فنيّة يبدو أن لديها خبرة طويلة يعكسها اختيار مواقع الحفر، مثل المقابر القديمة، ولوحظ وجود حسابات مختصة في الفيسبوك تنشرُ تقارير مصوّرة عن عمليات النبش والبحث عن الخزائن والمدفونات القديمة، وإحدى هذه الصفحات هي “صفحة كنوز ودفائن الماضي السلطان أحمد” ورابطها (https://www.facebook.com/kunozwadafa2nalmade/) وبروفايل الصفحة هو شعار السلطنة العثمانيّة، ووُجدت صفحة أخرى باسم وثائق ومخطوطات كنوز ودفائن الماضي، والشعار نفسه ورابط الصفحة (http://www.kunuzwadafayinalmadi.simplesite.com/) حيث تقوم هذه الصفحات وأمثالهما بنشر ثقافة النهب والحفر غير المشروع وتجارة الآثار على مستوى المنطقة، وفي مختلف المناطق السوريّة، الواقعة تحت سيطرة الجيش التركيّ عبر نشر فيديوهات توثق حالات التعدّي على المواقع الأثريّة.
وتستند عمليات البحث إلى خرائط مشفّرة بإشاراتٍ ورموز معينة، وإحدى هذه الصفحات اسمها “كنوز ودفائن الماضي السلطان أحمد”، وتعتمد شعار السلطنة العثمانيّة، وفي 18/6/2020 نشرت مقطعاً مصوّراً قالت عنه إنّه “من أحد أعمالنا خربة قديمة وهي بقايا كنيسة بيزنطية”، ولم تكشف عن اسم المكان وموقعه، وبتدقيق الصور وتحليلها يتبين أنّ الموقع يقع في ناحية شيراوا جنوب شرق قرية باصوفان بنحو 1.5 كم ضمن حقول الزيتون التابعة للقرية، ويعرف المكان باسم “كفرلاب” أو “قرية العاقل” من المواقع الأثرية القديمة، وفيه آثار كنيسة قديمة تعود إلى القرن السادس الميلاديّ.
الآثار في القانون الدوليّ
تضمنت قواعد القانون الدوليّ الإنسانيّ تحديداً للممتلكات الثقافيّة المشمولة بالحماية أثناء النزاعات المسلحة، وتُعدُّ اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافيّة خلال الحروب والصراعاتِ المسلّحة والتي تمَّ إقرارها في 14 أيار 1954،
جرت محاولات دوليّة كثيرة سابقة ولاحقة لتعديلِ الاتفاقية، وأُدخلت عليها تعديلات عام 1991. ويلزِم الاتفاقُ الأطراف السامية المتعاقدة التي تحتل كلاً أو جزءاً من أراضي دولٍ أخرى دعم جهود السلطات الوطنيّة المختصة في المناطق الواقعة تحت الاحتلال بقدر استطاعتها لوقاية ممتلكاتها الثقافيّة والمحافظة عليها. لا بل إنّ الاتفاق يلزم الدولة المحتلة باتخاذ تدابير وقائيّة للمحافظة على الممتلكات الثقافيّة الموجودة على الأراضي التي تحتلها. واعتبرت الآثار ميراثاً إنسانيّاً.
وصدرتِ المبادئ التوجيهيّة لاجتماع باريس 23/10/2007. واُعتبر التدمير المتعمد في النزاعات المسلحة الدوليّة انتهاكاً خطيراً يصل حدَّ تصنيفها “جريمة حرب”.
لم تلتزم سلطاتُ الاحتلال التركيّ بأيّ تعهدٍ تجاه الاتفاقات الدوليّة فيما يتعلق بالآثار، وتجنبِ استهدافها بالحربِ، بل جعلتها ميداناً للحربِ، وذكرت تقارير صحفيّة وإخباريّة أنّ مناطقَ الحدودِ تحولت لسوقٍ نشطة لمافيات تهريبِ الآثار من عفرين ومن مناطق سوريّةٍ أخرى.