عفرين بوست
تنتشر الشكاوى حول وحشية أنقرة ووكلائها السوريين فيما تطمس المأساة التي تجري فصولها على حدود تركيا
عادةً ما تتعامل وسائل الإعلام مع الطرد الجماعي أو الإبادة الجسدية لمجموعة عرقية أو دينية بأكملها، أي التطهير العرقي، بإحدى الطريقتين التاليتين: فإما أن تُسلّط عليه أكبر قدر من الضوء كقصة رعب ينبغي للعالم أن يهتم بها ويفعل شيئاً حيالها، أو أن تتجاهله ولا توليه أي اهتمام في الأخبار.
في البداية بدا أن التطهير العرقي للأكراد من جانب تركيا بعد غزوها لشمال سوريا في 9 أكتوبر (تشرين الأول) ينتمي إلى الفئة الأولى. كانت هناك إدانة غاضبة للتهجير القسري لـ 190 ألف كردي يعيشون بالقرب من الحدود السورية التركية مع تقدم الجنود الأتراك، خلف “الجيش الوطني السوري”، الذي هو في الواقع عناصر ميليشيات إسلامية غير منضبطة ومناهضة للأكراد، إلى المناطق التي يسيطر عليها الأكراد. وقد أظهرت مقاطع فيديو مدنيين أكراد فارين يُجرون من سياراتهم ويُرمون بالرصاص على جانب الطريق. من ناحية أخرى، نقل مراسلون خلال زياراتهم للمستشفيات صوراً لأطفالٍ يموتون بفعل الفسفور الأبيض الذي يحرق الأجساد وقيل إنه ناتج عن قنابل أو قذائف أسقطتها أو أطلقتها القوات التركية الغازية.
يتساءل الناس لماذا تلجأ الجيوش ذات التفوق العسكري الكامل إلى مثل هذه الأسلحة المروعة التي تعتبر غير شرعية بموجب القانون الدولي أو على أقل تقدير تضمن للمستخدم الكثير من الدعاية السيئة. وغالباً ما يكون التفسير هو أن أسلحة “الترهيب” تُستخدم عمداً لترهيب السكان المدنيين ودفعهم للهروب.
وفي حالة الغزو التركي لسوريا في الشهر الماضي، فإن الدافع ليس مسألة تكهن. ونجد الدليل عند ويليام ف. روبوك، وهو دبلوماسي أميركي كان في ذلك الوقت يتخذ من شمال شرق سوريا مقراً له، وكتب مذكرة داخلية لوزارة الخارجية، سُرّبت في وقت لاحق، بشأن ما عاينه. وتعد المذكرة المعنونة “حاضر في الكارثة: الوقوف جانباً بينما يقوم الأتراك بتطهير الأكراد من شمال سوريا ويزعزعون استقرار قاعدتنا ضد داعش في الشمال الشرقي” أفضل التحليلات المستنيرة لما حدث.
لم يكن لدى روبوك، المطلّع على معلومات المخابرات الأميركية بشأن النوايا التركية، أدنى شك في أن أنقرة ترغب في طرد 1.8 مليون كردي الذين يعيشون في منطقة روجافا شبه المستقلة. ففي مذكرته يقول “إن العملية العسكرية التركية في شمال سوريا، بقيادة الجماعات الإسلامية المسلحة التي تدفع لها أنقرة، تمثل.. جُهداً للتطهير العرقي يعتمد على صراع عسكري واسع النطاق يستهدف جزءا من معقل الأكراد على طول الحدود، ويستفيد من فظائع عديدة تثير الرعب ارتكبتها هذه القوات ورُوّج لها على نطاق واسع لها.”
وفي جزء لاحق من المذكرة، يشير روبوك إلى أن العناصر غير النظامية في ” الجيش الوطني السوري” كانوا في السابق متحالفين مع تنظيم القاعدة وداعش، وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أعلن في خطاب ألقاه في الأمم المتحدة، عن نية تركيا توطين السوريين العرب المنحدرين من أجزاء أخرى من سوريا ويعيشون حالياً كلاجئين في تركيا، في المناطق التي أخلاها الأكراد. ومن المؤكد أن إشارة روبوك إلى الروابط الجهادية المتطرفة لـ ” الجيش الوطني السوري” صحيحة لأن عناصره صوروا أنفسهم وهم يصفون الأكراد المسلمين السنة والإيزيديين والمسيحيين بالكفار ويهددون بقتل عناصر “وحدات حماية الشعب” (واي بي جي) التي فقدت عشرة آلاف في قتالها بالتحالف مع الولايات المتحدة ضد داعش.
لكن لم يؤثر هذا من قريب أو بعيد على زيارة أردوغان لواشنطن ولقائه مع الرئيس ترمب يوم الأربعاء الماضي. حتى أن الرئيس التركي أعاد إلى واشنطن الرسالة الشهيرة التي كان ترمب قد وجهها إليه خلال غزو الشمال السوري قائلا له “لا تكن رجلًا قويًا. لا تكن أحمقاً! “
في الواقع لا يبدو أردوغان أحمقاً للغاية بهجومه العسكري، لأنه من خلال ذلك يوازن بين ترمب وفلاديمير بوتين، ويركب موجة من الحماس القومي الزائد في الداخل. وفي حين تنتشر الشكاوى حول وحشية تركيا ووكلائها السوريين، فإن الهدف الأكبر والمتمثل في التطهير العرقي للأكراد من حدود تركيا يتعرض للطمس والتمويه ويتضاءل الحديث عنه، على الرغم من أنه لا يزال مستمرا. إن جعل الحياة مستحيلة بالنسبة للسكان المدنيين يمكن أن يتخذ أشكالاً فعالة أخرى ولكن أقل إثارةً من استخدام الفسفور الأبيض أو القتل على جانب الطريق.
ومثال هذا النوع من الضغط الذي يرغم الناس على النزوح هو حرمان حوالي 400,000 شخص من مياه الشرب، ومعظمهم من الأكراد الذين يعتمدون على محطة “علوك” للمياه بالقرب من رأس العين، والتي تضررت بسبب القتال أثناء الغزو وتخضع حاليا لسيطرة القوى العاملة بإمرة تركيا، والتي تمنع إصلاحها. وتبذل الأمم المتحدة محاولات يائسة لاستعادة إمدادات المياه من محطة علوك، لكنها فشلت حتى الآن بذلك. وتشير إلى أنه حتى قبل 9 أكتوبر، كان 900,000 ، من أصل سكان شمال شرق سوريا الذين يقدرون بثلاثة ملايين، في حاجة ماسة إلى مياه الشرب، وأن الوضع ازداد سوءاً منذ ذلك الحين.
يقول المشككون إن كل الدعاية التي يحظى بها التطهير العرقي التركي للأكراد في شمال سوريا منذ الغزو لم يكن مفيدا للضحايا على ما يبدو. لكن تتعرض تركيا بسبب ما تفعله لشجب دولي يبدو ثمناً يساوي إلى حد كبير ما كسبته عبر العلاقات الشخصية الوثيقة بين أردوغان وترمب. وفي هذا الصدد من الصعب إجراء عمليات الطرد والقتل الجماعية من قِبل وكلاء “القاعدة” عندما يصبح هذا التطهير العرقي واحداً من العناصر التي تدور حولها المعارك السياسية بين البيت الأبيض من جانب وجزء كبير من الكونغرس ووسائل الإعلام والسياسة الخارجية الأميركية من جهة أخرى.
نعلم أن الضغط التركي على الأكراد روجافا قد يتخذ صورة أسوأ، لأن هذا ما حدث سابقاً بالفعل في عفرين، وهو جيب كردي معزول يقع في شمال حلب غزته تركيا واحتلته في أوائل عام 2018. ويعد غزو عفرين مثالا على نوع التطهير العرقي الذي ذكرت سابقا أنه لا يحظى بتغطية إعلامية على الإطلاق. فالكثير من السكان الأكراد الأصليين البالغ عددهم 200,000 في عفرين أصبحوا الآن لاجئين، ومن بقي منهم هناك يتعرضون للمضايقات من قبل الميليشيات العربية السورية نفسها التي شكلت رأس حربة للقوات التركية الغازية في أكتوبر لشرق الفرات.
وعلى الرغم من صعوبة الحصول على معلومات من داخل عفرين، إلا أن ما يتسرب من هناك يفيد بأن الأكراد يفقدون منازلهم وأراضيهم وآلاتهم الزراعية ويعيشون تحت رحمة الميليشيات العربية السورية المفترسة التي تأتمر بأوامر تركيا. يذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو أحد المنظمات القليلة التي بقيت على تواصل مع مخبرين لديها في عفرين، أنه في إحدى القرى، وفي اليوم الذي كان يجتمع فيه أردوغان مع ترمب في واشنطن، اختطفت المليشيات ستة من أبناء المنطقة ونقلتهم إلى سجن خاص. وفي وقت سابق من هذا العام، أوردت وسائل الإعلام المحلية نبأ اختطاف صبي في العاشرة من عمره مصاب بمتلازمة داون مع والده وجده. وقد قُتل الثلاثة فيما بعد عندما لم يتمكن باقي أفراد العائلة من دفع فدية قدرها 10 آلاف دولار.
تعد مثل هذه الأعمال الوحشية تطهيراً عرقياً قيد التطبيق حالياً، وهو ما سمح به ترمب عندما فتح الباب أمام الغزو التركي لسوريا.
المصدر: باتريك كوبيرن مراسل الشؤون الدولية
© The Independent