عفرين بوست – متابعة
نشرت صحيفة النهار اللبنانية، أمس 19 مارس، مقالًا في السنوية السادسة للاحتلال التركيّ لعفرين بعنوان “في ذكرى الاحتجاجات الشّعبيّة السوريّة… واحتلال تركيا عفرين”.
وذكر المقال تزامن استذكار بدء الحراك الشعبي في سوريا وسنوية احتلال عفرين وقال: “خلال شهر آذار (مارس) الجاري يستذكر سوريون في الداخل والخارج مرور ثلاث عشرة سنة على بداية الاحتجاجات الشعبيّة في البلاد، قبل أن يتغيّر مسارها وتتحول إلى حرب أهلية طاحنة متشابكة. كان من المفترض أن يحتفل أولئك السوريون بنظام جديد يستجيب لآمالهم وتطلعاتهم رغم اختلاف وجهات النظر حول شكل هذا الحكم وإدارته. لكن، بعيدًا من سنويّة الاحتجاجات وما اَلت إليه الأوضاع، فإنّ الكرد القاطنين في شمال البلاد وغربها يستذكرون بغصّة يوم الثامن عشر من آذار الذي يتوافق مع يوم احتلال تركيا مدينة عفرين السورية”.
في هذا التاريخ عام 2018، تمكنت تركيا وفصائل مسلحة تدعمها، بعد نحو شهرين من الحرب، من احتلال منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية في أقصى شمال غربي سوريا. وكانت عفرين قبل الغزو التركيّ قد قدمت نموذجًا متقدّمًا للتعايش، إذ مثّلت المقاطعة الثالثة التي شكّلتها الإدارة الذاتية إلى جوار الجزيرة وكوباني أو ما عُرف بـ”الكانتونات”، وبقيت رغم حدة الصراع الأهليّ في سوريا ملاذًا آمنًا لمئات الآلاف من النازحين الذين اضطروا للسكن فيها.
لم يرق المتغير الذي طرأ على عفرين للدولة الجارة تركيا، رغم تشديد الأكراد المتواصل على وحدة البلاد والانتماء إلى سوريا وعدم استعدائهم الجارة تركيا، ولم تشفع سوريّا هذه المنطقة بما فيه الكفاية لتبدأ تركيا يوم 20 شباط (فبراير) من عام 2018 شنّ غزوٍ عنيف على المنطقة.
في تقريرها الأخير “كل شيء بقوة السلاح” قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن “تركيا تتحمل مسؤوليّة الانتهاكات الجسيمة وجرائم الحرب المحتملة التي يرتكبها عناصر قواتها والجماعات المسلحة المحلية التي تدعمها في الأراضي التي تحتلها في شمال سوريا”، وأكدت أن الأكراد يتحملون وطأة الانتهاكات هناك.
مبدئيًا، اختصرت المنظمة الدولية نقطتين مهمتين: الأولى: ما يعانيه السكان الأكراد عقب الغزو التركي، والثانية أن تركيا لا ترتقي حتى لأن تكون قوة احتلال في تلك المناطق، فقوة الاحتلال تترتب عليها واجبات وفقًا للمادة 42 من لائحة لاهاي عام 1907، وسلطات الاحتلال ملزمة بحفظ الأمن والسلام، بالإضافة إلى حظر عمليات النقل الجماعيّ أو نقل المدنيين التابعين لسلطات الاحتلال، كما تمنع مصادرة الممتلكات وتدمير المعالم الثقافية، وبالتالي فإنّ قائمة “المحظورات” وفقًا للائحة لاهاي طويلة، ولا تلتزم الحكومة التركيّة بأي من بنودها.
لم تكتفِ تركيا بغزو مدينة عفرين عام 2018 وبسيطرة الفصائل المسلحة التابعة لها على المنطقة، بل سعت بشتى الطرق إلى تهجير سكانها وتوطين عوائل الفصائل الراديكاليّة التي أعادتها من تركيا إجباريًا إلى سوريا باسم “العودة الطوعيّة” للسوريين من تركيا، علاوةً على جلب مئات المسلحين والقياديين السابقين لدى تنظيم “داعش” الإرهابيّ إلى المدينة.
تزامنت الحرب على مدينة عفرين بغارات روسية مكثفة على قرى الغوطة الشرقيّة، لتسفر عن ترحيل المسلحين وحواضنهم المجتمعيّة إلى عفرين، وبتهجير أهاليها تاليًا، كنتيجة للحرب وتوطين المستقدمين من الغوطة ومناطق أخرى، ما أفضى إلى انخفاض نسبة الأكراد إلى نحو 20% بعدما كانت تتجاوز 95% قبل احتلالها، إضافة إلى أن هذه المنطقة تعيش حالة فوضى وفلتان أمنيّ واشتباكات عنيفة بين الفصائل المسلحة جراء خلافات داخلية بينها.
تفرض تلك الفصائل المسلحة المدعومة من أنقرة الإتاوات على الكرد، ويتم تدريس اللغة التركيّة عنوةً، وتهمل لغة أهل المنطقة الأم (الكردية)، كما سُلبت الأراضي والمحاصيل الزراعيّة، فيما تتعرض النساء والرجال للاختطاف لابتزازهم مالياً. وتواصل أنقرة إجراءاتها لإحداث تغييرات تطاول ديموغرافية المنطقة بطريقة مُمنهجة عبر تهجير من بقي من الأكراد ومنع عودة المهجّرين، وزجّ العائدين إلى ديارهم في السجون بتهمة “العلاقة مع الإدارة الذاتيّة”.
وعلى الطرف الآخر من ريف حلب الشمالي، يعيش مئات آلاف من الأكراد السوريين المتحدرين من عفرين منذ بداية الغزو، في مخيمات عشوائيّة في قرى منطقة الشهباء المجاورة، ويعانون ظروفًا معيشيّة صعبة للغاية، ولا يمكنهم العودة إلى ديارهم أو الانتقال إلى منطقة أفضل في البلاد بسبب الحصار المطبق الذي تفرضه القوات السوريّة عليهم، إذ يمنع دخول المواد الغذائيّة والأدوية ووقود التدفئة إليها، وتُعرقل عمليات الإسعاف، ويجري كل ذلك وسط تجاهل المجتمع الدوليّ لمصائرهم واحتياجاتهم، في وقت تستمر فيه تركيا باستهداف تلك المخيمات، وهو ما ينجم عنه وقوع ضحايا مدنيين على الدوام.
حالة الفوضى والفلتان الأمنيّ الممنهجة التي تعيشها عفرين زادت من ارتفاع مستوى الجرائم، وبات إطلاق الرصاص ظاهرة عامة، حتى بات قتل الكُردي مجرد حادث عرضيّ لا يستوجب المساءلة، وهذا أدنى توصيف لما يحصل. فقبل أيام قليلة أقدم شخص يتحدر من ريف إدلب على قتل طفل كردي يبلغ 16 عامًا، إثر خلافه مع والد الضحية. واعتدى مسلحون بالأسلحة البيضاء على طفل كرديّ آخر. وعشية يوم “نوروز” (رأس السنة الكردية المصادف 21 آذار) العام الماضي، أطلق عناصر من فصيل مسلح تدعمه أنقرة النار بدم بارد على أفراد عائلة واحدة على خلفيّة احتفالهم بيوم نوروز القومي.
كل هذه الانتهاكات هي في جزء منها، نتاج الضخ اللامحدود لخطاب العنف والكراهية، ولعل استمرارها قد يقود إلى تفجّر غضب شعبيّ لاحق ستقابله الفصائل المُسلحة بمزيد من القمع الذي يتقاطع مع ممارسات الحكومة السورية تجاه نازحي عفرين في بعض المناطق التي تحاصرها قواته.
بالعودة إلى ذكرى الحراك الشعبيّ في البلاد، ومساره الذي انحرف عن أهدافه الأساسية وعن مطالب السوريين، بات من الضروري اليوم، لا سيما بعد سنوات الحرب الطويلة وما رافقها من دمار وانهيار اقتصادي، على كل الأطراف السوريّة التعامل مع واقع البلاد وشؤونها بواقعيّة، واعتبار قضية عفرين مسؤولية المجتمع السوري برمّته، ولا يجوز تاليًا أن تتغاضى الأطراف المعارضة والنظام السوريّ عما يجري فيها، ذلك أن تجاهل ما يحصل هناك يبدو كما لو أنه إنكار لهوية عفرين السوريّة أو أنها قضية خارجية!
والحال أن التعاطي مع القضايا السوريّة على أساس عرقيّ وطائفيّ هو الذي أوصل البلاد إلى حالتها الراهنة. ورغم أنّ هذا المنظور لا يروق لطيف واسع في المعارضة ممن يعاندون ويكابرون ويرفضون الإقرار أو الاعتراف بفشلهم نتيجة سياساتهم الخاطئة والانجرار وراء أهداف لا تخدم السوريين ولا تنسجم مع تطلعاتهم، إلا أن الإصرار على إنكار هوية هذه المنطقة أو تلك يعني العودة إلى ما قبل عام 2011، وهو بالضبط ما يسعى إليه النظام، أي العودة بالأوضاع إلى ما قبل بدء الاحتجاجات الشعبية.