عفرين بوست- خاص
منذ اليوم الأول للعدوان التركي على إقليم عفرين في 20 يناير/كانون الثاني 2018، بدأت آلة الحرب التركية والفصائل والميليشيات التابعة لها بارتكاب جرائم وانتهاكات ضد الإنسانية ترتقي غالبيتها لجرائم حرب، وصلت هذه الجرائم لذروتها بعد أيام من احتلال تركيا لعفرين وريفها في 18 مارس/أذار 2018، ليبدأ معه فصل جديد من الانتهاكات تحت وصاية ما سميت بالحكومة المؤقتة والتي كانت تتخذ من العاصمة التركية مقرًا لها آنذاك ونقلت بعضٍ من مقارها إلى شمالي سوريا فيما بعد.
تركزت الجرائم والانتهاكات ضد الكرد، تنوعت بين الاعتقال التعسفي والتعذيب ومصادرة الأملاك والنهب والسلب والخطف، وفقدَ العشرات من المدنيين حياتهم في السجون تحت التعذيب، منذ ذاك الوقت لم يحرك المجتمع الدولي والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان أي فعلٍ حقوقي أو تجريم علني للمسؤولين في عفرين والشمال السوري المحتل، مكتفية ببعض البيانات والتقارير الحقوقية عن حجم الانتهاكات وتزايدها يومًا بعد يوم.
على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، بدأت بعض الشخصيات السورية والمنظمات المدنية الحقوقية في جمع وتوثيق الانتهاكات ومحاولة اللقاء مع الناجين سواء في الداخل السوري أو الخارج، للاستفادة من النظام القضائي في دول الاتحاد الأوربي التي تسمح بمتابعة الجرائم التي ترتقي لجرائم ضد الإنسانية أو تلك الانتهاكات لحقوق الإنسان ورفع دعاوي رسمية ضد قيادات وعناصر الميليشيات التابعة لتركيا في عفرين، على غرار ما حدث من دعاوي عدة ضد شخصيات وقيادات من منتسبي داعش أو مؤيدي النظام السوري.
يواكب موقعنا “عفرين بوست” مجريات أولى الدعوات القضائية من قِبل ناجين من بطش هذه الفصائل والميليشيات ووصلوا إلى دول الاتحاد الأوربي، وكان لنا لقاء مع السيد “بسام الأحمد” الإداري في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” لمعرفة آلية تقديم الشكوى وهل ستكون هذه نقطة البداية فقط في هذا المضمار الحقوقي؟
ما هو محور الشكوى؟
تتناول الشكوى الجنائية المقدَّمة من قبل “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” (ECCHR) “وسوريون من أجل الحقيقة والعدالة” (STJ) انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الميليشيات الإسلامية المسلحة في إقليم عفرين شمالي سوريا منذ يناير 2018، بعلم من تركيا ودعم منها.
تشمل هذه الانتهاكات اضطهاد وتهجير السكان المدنيين ذوي الأغلبية الكردية، والقمع العنيف للسكان من خلال الاعتقال والتعذيب، والقتل المستهدف، وتدمير مواقع التراث الثقافي. يتمحور موضوع الشكوى عمليًا حول الفظائع التي ارتكبتها مختلف الميليشيات المنضوية تحت مظلة الجيش الوطني السوري، ولا سيما “فرقة الحمزة (الحمزات)، وأحرار الشرقية، وفرقة السلطان مراد، ولواء السلطان سليمان شاه (العمشات)”. ويجدر الذكر أنَّ “المركز الحقوقي الأوروبي” و”سوريون” يدعمان ستة ناجين/ات من هذه الجرائم الدولية.
تشكّل الجرائم التي تُرتكب على يد الميليشيات المسلحة في عفرين، هجومًا ممنهجًا على السكان المدنيين ذوي الأغلبية الكردية، وبالتالي على الهوية الكردية للمنطقة بحسب نص الدعوى. وبعد أن كانت عفرين تعتبر تاريخيًا المنطقة الأكثر كثافة سكانية كردية في سوريا، أصبحت اليوم تعاني من التقلص المستمر لأعداد الكرد فيها نتيجة عمليات الطرد والتهجير الممنهجة التي تمارس في حقهم من قبل السلطات القائمة بعفرين، وبناء المستوطنات بهدف إعادة توطين السوريين المُهجَّرين من مناطق أخرى في البلاد.
المصالح السياسية لها دور بارز
رغم استحواذ قضية عفرين أهمية كبيرة في الملف السوري نتيجة الكم الهائل من الانتهاكات المستمرة على مدار سنوات عدة من قبل الميليشيات المسيطرة هناك، إلا أن المواقف الدولية والحقوقية الجدية لمحاسبة مرتكبي تلك الجرائم كانت وما تزال مغيبة، هنا يشير السيد “بسام الأحمد” إلى أن السبب الحقيقي هو “سياسي بحت” ويقول “إذما قارنا بين المواقف الدولية من الانتهاكات التي تحدث في مناطق سيطرة النظام السوري هي أقوى وأكثر دعماً من قبل المجتمع الدولي من تلك التي تحدث في عفرين، والسبب هنا هو سياسي بحت، لأن المجموعات المنتهكة للحقوق في عفرين هي قريبة من تركيا وهذه المعارضة قريبة من الغرب، ولأن تركيا تمتلك الكثير من الأوراق الضاغطة على الغرب من بينها النازحين، لذا الدول الغربية ستقوم بغض الطرف أو عدم التشهير بهذه الانتهاكات لأن لها مصالح مع تركيا على عكس الانتهاكات التي تقوم بها ميليشيا أو النظام السوري في مناطقها والتي تعتبرها الغرب موجهة ضد سياستها”.
هل بيئة عفرين مناسبة لتوثيق الانتهاكات؟!
العمل التوثيقي في سوريا عامة محفوف بالمخاطر، لكن في عفرين هناك أسباب إضافية تجعل من عملية توثيق الانتهاكات ورفع التقارير للجهات الدولية صعبة جدًا، إضافة للسبب السياسي الذي يشكل جوهر المشكلة أساسًا نتيجة أن الكثير من الحكومات التي تتواصل معها المنظمات الحقوقية ومن بينهم “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” لا تهتم بهذه الانتهاكات والغالبية لا تدعم وتمول المشاريع الهادفة لتوثيق الانتهاكات في مناطق المحتلة من قبل تركيا نتيجة ترابط المصالح السياسية والاقتصادية بينها وفقًا للأحمد.
إضافة للمصاعب الأمنية، وهنا يستفسر بسام “هل يمكن توثيق الانتهاكات في منطقة مثل عفرين وبالأخص أن الجهات المسيطرة هي التي تقوم بهذه الانتهاكات؟ فأي عمل على توثيق الانتهاكات يعتبر صعب وربما جرمًا!، والعمل التوثيقي يجب أن يتم بالتواصل المباشر مع الضحية”.
السبب الثالث يعطي عفرين خصوصية داخلية، وهو الانقسام الكردي في مجال توثيق الانتهاكات وهل وضع عفرين هي منطقة محتلة أم محررة هذا التوصيف له اعتبار وأسباب، وهذا الانقسام يضعف موقف المنظمات الحقوقية الساعية لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات في عفرين، من وجهة نظر “الأحمد”.
ماذا عن الناجين المقيمين في سوريا؟
تستند هذه الدعوى في طبيعتها إلى القوانين القضائية في بعض دول الاتحاد الأوربي والتي توصف بالولاية القضائية، التي تسمح برفع دعاوي وشكاوي لجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات لحقوق الإنسان حدثت في أي منطقة بالعالم، لكن لهذه القوانين شروط معينة يجب توفرها بحسب البلد، في ألمانيا مثلاً يجب تواجد الضحايا على الأراضي الألمانية أو في دول الاتحاد الأوربي لكي تأخذ القضية مسراها القانوني، وبالنسبة للناجين من الانتهاكات والمتواجدين ضمن الأراضي السورية سيكون ذلك صعب جدًا وفق السيد “بسام”، وذلك لاعتبارات قانونية بحتة.
ومن المؤسف أنه في الحالة السورية لا يمكن رفع القضايا أمام المحكمة الجنائية الدولية لأن تركيا لم توقّع على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (ICC) وبالتالي فهي لا تخضع لولايتها القضائية. وسوريا ليست دولة طرفًا في المحكمة الجنائية الدولية. كما أنَّ الصين وروسيا تمنعان إحالة مجلس الأمن الوضع إلى المحكمة الجنائية الدولية. وهذا يعني أنَّ اتخاذ الإجراءات غير ممكن حاليًا إلا في دول ثالثة خارج سوريا وتركيا وذلك بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية، أو في الحالات التي تكون فيها دول ثالثة مسؤولة عن الجرائم في سوريا لكون مواطنيها متورطون فيها إما كضحايا أو جُناة.
لكن بطبيعة الحال يتمنى “الأحمد” وبعض النشطاء السوريين الآخرين أن تكون هذه الدعوى نقطة البداية فقط، ويُشير إلى أن المناخ القانوني متوفر في الكثير من دول الاتحاد الأوربي، ويتمنى أن تتم خطوات مماثلة في السويد وفرنسا وباقي الدول الأوربية التي تتجاوب مع هذه القضايا.
نقطة البداية
ماتزال هذه الشكاوى في بدايتها وحاولنا التواصل مع الناجين الست الذي رفعوا الشكوى، إلا أن سرية التحقيقات والاعتبارات الأمنية لم تساهم في اللقاء بهم، والخطوة الأولى ستكون عبر حثّ المدَّعي العام الألماني على تكثيف التحقيق الهيكلي القائم الذي يجريه بشأن الجهات المسلَّحة غير الحكومية في سوريا، ودعوته إلى استخدامها لتوضيح الجرائم المتناولة وإضفاء الطابع الفردي عليها. وبالإضافة إلى ذلك، يدعو المركز الأوربي للحقوق إلى بدء تحقيقات شخصية مع قادة الميليشيات الذين يرتكبون الجرائم في عفرين.
فلن تكون النتائج ظاهرة في الفترة القليلة المقبلة بشكلٍ واضح، لكنها تعتبر نقطة إيجابية في تحريك بعض الملفات القانونية في الغرب ضد مليشيات إسلامية تدعي تمثيلها للشعب السوري، إضافة لفضح سياسات تركيا في سوريا، ولعلى ما قامت به تركيا من اعتقال ثلاث نشطاء سوريين على أراضيها، يوم أمس 20 فبراير، بتهمة تعاملهم مع الاستخبارات الفرنسية هو دليل مؤكد على أن تركيا تخاف من تحريك دعاوي ممثلة ضدها في مواضيع تتعلق بحقوق اللاجئين السوريين ضمن أراضيها وما يلحقهم من عنصرية وتعذيب واستغلال.
وأصدر تسعة أعضاء في البرلمان الأوروبيّ ــ بروكسل، في الخامس من فبراير الجاري، بيانًا مشتركًا تحت عنوان “دعم التحقيقات في الجرائم المرتكبة في عفرين/شمال سوريا”. وأعربوا عن تضامنهم مع الضحايا والناجين من هذه الانتهاكات الجسيمة، ويرى الإداري في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” أن بيان البرلمانين الأوربيين خطوة هامة وجيدة وشكر بدوره النشطاء الذين ساهموا في إصدار هذا البيان، وأكد أن هناك نشطاء سوريون دعموا رفع الشكوى هم ليسوا كرد لكن لهم مواقف من الانتهاكات، لذا يجب ان ينظر الجميع إلى موضوع الانتهاكات بعين مجردة وبعيدة عن المصالح السياسية وأن يتم توثيقها في كل مكان ومن قبل كل الأطراف.
ومع تزايد مستويات العنف في العالم، يولي الجميع أهمية لمتابعة الانتهاكات والجرائم في كل مكان سواء في أوكرانيا أو فلسطين أو أماكن أخرى ومن ضمنها سوريا، لذا يجب على المنظمات الدولية إدراج تركيا أيضًا ضمن هذه التحقيقات الخاصة بانتهاك القوانين الدولية سواء في عفرين أو قصفها المستمر للبنية التحتية التي تخدم المدنيين في شمال شرق سوريا، وهنا ينادي الإداريون في “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” و”المركز الأوربي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” كافة الهيئات الدولية والأمم مؤسسات الأمم المتحدة لعمل على ذلك وكذلك أن تكون نتائج الشكوى هذه في ألمانيا إيجابية لتكون نقطة انطلاقة بناءة في مجال حقوق الإنسان ومحاسبة مرتكبي الجرائم.