عفرين بوست-فلاش باك-خاص
قصة: أحمد اسماعيل اسماعيل
حبيبتي سِدْرة
لقد بدل الله لنا جنة بجنة يا حبيبتي، وهذه الجنة تنتظر شجرتها لتكتمل، أسرعي بالقدوم، فعقربا والغوطة كلّها، لم تعدْ مكاناً آمناً، لقد حصلت على بيت كبير في هذه الجنة، وسنتزوج فيه، وننجب فصيلاً من الأولاد.
بعد هذه الرسالة التي جاءتها من خطيبها خالد، المقاتل في فيلق الحمزات الذي دخل منطقة عفرين مع فصائل أخرى وطلائع من الجيش التركي، بعد شهرين من الحصار والقصف، نزحت سِدْرة مع أناس كثر من بلدتها “عقربا” في الغوطة الشرقية، هرباً من سماء تتساقط منها البراميل المعبأة بالنيران، وأرض تنتشر فيها أشباح ترفع رايات سوداء مهترئة. ووصلت إلى الجنة الموعودة، وشاهدت البيت الكبير الذي وصفه خالد بالواسع والجميل، والمزينة باحته الواسعة بحديقة صغيرة، تطل عليها نوافذ واطئة لغرف كثيرة؛ وسكنت فيه، هي ومن نزح معها من أهليهما، أمها وأخوها الصغير ووالديّ خالد وأخته الصغيرة.
لم تمر أيام كثيرة لها في هذا البيت حتى ظهر لها آخرون، أناس أغراب، أخذوا يزاحمونها في هذا المسكن، ويثيرون هواجسها بما يتحدثون به بلغة غريبة عليها، وما يفعلونه في الدار، وهم يتبدلون ويتخذون هيئات مختلفة الأشكال، لتهجس على إثر ذلك، وتأتي بحركات غريبة، حتى ظن الجميع أنها أُصيبت بمس من الجنون.
وانقلبت من حال إلى حال. لقد كانت شجيرة دائمة الخضرة، جميلة ونضرة، فأمست في أيام قلائل جرداء يابسة، لا تحط على أغصان قلبها الفراشات كما في السابق، وبدأ حب خالد لها أيضاً ينقلب، والذي كان عشقاً وهياماً، فغدا تعاطفاً ثم شفقة، وخالط النفور ما في داخله من حزن وتعاطف، ونفد صبره وغلبه، فألتجأ إلى قائد فصيله، بعد أن بث همومه إلى أكثر من رفيق له في الفصيل، وتقدم منه بطلب العون والسند، فأحاله القائد إلى شيخ الفصيل ودليله، الرجل الذي ينتمي إلى سكان هذه المنطقة، ويعرف الجن وأنواعها، ويحسن طردها من الأجساد، ومن مساكنها أيضاً.
كان الشيخ خليف ينهال عليها بالسوط وهو يدعو الجن إلى الخروج من جسدها، وكانت هي تتلوى مثل شجرة تحترق وسط عاصفة هوجاء، تنظر إلى خالد، الواقف غير بعيد عنها، بوجه صامت وعينين ممتلئتين بالدهشة.
لقد أحبها كثيراً، وكانت تعلم ذلك جيداً، وتقدم لخطبتها بعد وقت قصير من التعرف إليها، ليس لجمالها أو مالها، ولا لحسبها ونسبها، بل لشدة طيبتها، وبساطتها الآسرة، وكان يقول لها دائماً: “إن لكل امرئ من اسمه نصيب، ونصيبك من هذا الاسم المبارك كبير”. وكان جميع من يعرفها في بلدتهما والغوطة الشرقية، يبارك له الخطوبة، ويجزل الثناء عليها، ويبشره بثمار طيبة من شجرة بلا أشواك.
هل جاءت بالجني من هناك، من الغوطة؟ تساءل في حيرة؛ أم أن الجن هنا، في عفرين، اقتحموا جسدها فور دخولها إلى المدينة، انتقاماً لهزيمة ابنائهم! ولكن لماذا هي بالذات؟
حين دخلت البيت الكبير الذي وهبه إياه أمير الفيلق، وكانت تسير خلف أمه وأبيه، رفقة أخته زينب، وكانت أمها وأخوها الصغير يسيران بجانبهما، كاد أن يطلق العنان لحنجرته وينشد لها: طلع البدر علينا..ولكنه لم يفعل، ليس خجلاً من أبويه، بل خجلاً من رفاقه في الفيلق، وخوفاً من غضب القائد، فالنشيد قيل لخير المرسلين، ولا يجوز أن يردد لغيره، حتى لو كان هذا الغير حبيبة، أو أميراً مجاهداً.
فاكتفى أن همس في أذنها: “هذه مملكتك، إنها غنيمة حرب، ستجدين في هذه الدار كل ما تحتاجين إليه: الأثاث، والألبسة النسائية والرجالية، والأدوات المنزلية، وألعاب الأطفال، حتى المؤونة موجودة بوفرة”. ووعدها أن يستولي لأمها وأخيها على بيت مناسب يكفيهما، وتمنى قدوم والدها الذي بقي هناك، وسيعمل على ذلك للتسريع في إقامة حفل زفافهما.
ودارت لحظتئذ في أرجاء البيت الفسيح، في الحوش ذي الحديقة التي تزدان بشجيرات أُزهرت حديثاً، ونباتات خضراء، وأعشاب، وشاهدت في بعض جنبات الحوش دراجة هوائية صغيرة، وكرة قدم بلاستيكة مخططة، وعلبة صدئة فيها كرات زجاجية صغيرة، ودخلت غرف الدار الأربعة، ومطبخه الكبير، والحمام والمرحاض.
كانت تنظر إلى ذلك كلّه بعينين ممتلئتين بالدهشة، كما عندما وصلت على مشارف المدينة وشاهدت أشجار الزيتون، غابة من الأشجار، وباحت له عن إعجابها الشديد بها، فالزينون شجر مبارك.
وفي الليل، وبعد أن تناولوا جميعاً طعام العشاء، وهم يطلقون ضحكات الفرح والسعادة بهذه المكافأة والتعويض عما فقدوه من خسائر في بلدتهم، وعن هروب أبناء الجن إلى العراء، حيث مساكنهم منذ الأزل، ومقتل الأشرار منهم، توزعوا على الغرف الأربعة ليناموا فيها. استقلت هي وأمها وأخوها غرفة، وتوزع الباقون على غرف الدار الأخرى.
وفي منتصف الليل، الذي كان سواده كثيفاً، والهدوء فيه بكيماً، هبّ الجميع مفزوعين على صوتها وهي تصيح:
“الأشجار تبكي، أشجار الزيتون تبكي يا أمي”.
والتفوا جميعاً حولها، وقد خرجوا من الغرف إلى باحة الدار في ثياب النوم، هلعين ومندهشين، كانت واقفة أمام باب غرفتها، تصيح بذهول وهي تشير إلى البعيد، فقدموا لها الماء، وقرأت أمها آيات قرآنية قصار، ومسدت رأسها، وتمتم والده ببعض الآيات أيضاً.
ولكنها لم تكفْ عن الهذيان وظلت تردد:
“الأشجار ترتجف، إنها تبكي، الأشجار تحلق في السماء، السماء تمطر زيتاً أحمر، حبات الزيتون تسقط مثل الحصى، وتنزف، إنها تنزف..”
أعادوها إلى غرفتها، ونامت أمها لصقها وهي تبسمل وتحوقل، وعاد خالد إلى غرفته مذهولاً، وبدأ يفكر فيها بعطف، وكان يتمنى لو كانت زوجته الآن لضمها إلى صدره، وما غفا حتى تنام، أما والده الذي سألته زوجته عن تفسير سقوط الدم من السماء، وحبات الزيتون على رؤوس الناس مثل الحصى، وبكاء الأشجار، فقد أجاب، وبعد طول تفكير: “الله أعلم، أعتقد أنها مجرد هلوسة. فالطريق كان طويلاً، والوقت ربيع، والنفوس الرقيقة تتجاوب مع تقلباته.”
أغمضت الأم عينيها وهي تحاول أن تجد تفسيراً آخر لهذا الرؤيا، وراحت تنبش ذاكرتها عن معنى لشجرة تبكي، وتمنت لو أن جارتها في البلد كانت موجودة معهم، لعثرت على تفسير مناسب لأحلام ابنتها.
أما الولد الصغير وأخته زينب؛ فقد خافا كثيراً، إذ أن هذه المدينة، وكما قيل لهما، كانت مسكناً لأبناء الجن، حتى اسمها مخيف، ولعل عفرين هو اسم لأنثى العفريت.
وفي الصباح، وبعد تناول الفطور من زيتون وجبن وسمن جلبها خالد بفرح وانتصار من المطبخ، أخذها إلى خارج المدينة، حيث أشجار الزيتون المنتشرة بكثرة، وهناك، وكي يبدد مخاوفها، أطلق النار على الأشجار، وتحداها أن تطير، فارتجفت الأشجار أمام ناظريها وبكت، ولم تحلق عالياً وتطير، وعندما رأت سدرة أغصان الأشجار وهي تتجعد، وشاهدت الدموع تسيل منها زيتاً أحمر، صمتت بخوف، واستمر خالد في الضحك. وعندما ابتعدا عن الأشجار؛ تجنبت أن تطأ قدماها حبات الزيتون التي كانت تتدحرج على الأرض.
غادرا المكان تاركين الأشجار تبكي بصمت.
جاب بها سوق المدينة، وأراها قاعدة تمثال كبير، وتباهى بمشاركته في إسقاطه مع أخوته المجاهدين؛ لأنه الصنم الذي كان أبناء الجن يعبدونه، وعندما تابعا السير، أشار إلى بعض أهالي المدينة بحركات تهديد، فأسعده ما طرأ على وجوههم من خوف، ونصحها بألا يغرنها ما يظهر على وجوه السكان من طيبة، فهم من نسل الجن، وحدثها عن جنيات كنَّ يقاتلن ضد المجاهدين أثناء اقتحام المدينة، وكنّ عنيفات، كأنهن جنيات بحق.
وضحك بانتشاء وهو يروي لها الجهاد الذي مارسه هو ورفاقه مع جنيات كثيرات، فلم تشاركه الضحك، ولم تسأله عن شيء.
وفي يوم ثان:
كانت مستلقية في فراشها، كان الليل قد انتصف، ونام جميع من في الدار، ولم تكن هي قد نامت بعد، وكان خالد خارج الدار، مع رفاقه في الفيلق، يؤدون بعض المهام الموكلة إليهم في المدينة وضواحيها، حينها شاهدت من يدخل إلى غرفتها وهو يدندن بكلمات أغنية غريبة لم تفهم كلماتها، كان الداخل فتاة في مثل عمرها، جميلة وقامتها طويلة، توجهت الفتاة إلى الخزانة، وأنزلت حقيبة كبيرة من فوقها، نفخت على سطحها قبل أن تفتحها، فتطاير الغبار في المكان، ودار في الغرفة سرباً من الجراد، دار الجراد حول عيني سدرة الخضراوين، ثم غادر المكان من خلال النافذة، أخرجت الفتاة فستان عرس من الحقيبة، كان وردي اللون وجميلاً، أو أبيض، إذ لم يتبين لها لونه في عتمة الغرفة، تأملت الفتاة الفستان بسرور، ضحكت وبكت، وتابعت سدرة مراقبتها دون في ذهول، أعتقدت للوهلة الأولى أنها في حلم، وإن هذه الفتاة جاءت لتقدم لها الثوب؛ هي العروس القادمة من بعيد، لتلبسه في ليلة زفافها، غير أن الفتاة سرعان ما ارتدته وراحت ترقص، ثم وقفت فجأة ونظرت إلى سدرة في دهشة، وأطلقت صرخات قوية، وتحولت فجأة إلى حمامة بيضاء، وأخذت تحلق في فضاء الغرفة، وتحت سقفها الواطئ، وحطت في النافذة وهي تنظر إليها وتهدل، دوت لحظتئذ صوت طلقة، وأحدث أزيزها ارتجاجاً في النافذة، انتفضت الحمامة وسقط رأسها، واصطبغ جسدها كله بالدم، انطلقت سدرة من فورها إلى الحوش، فشاهدت خالداً في ظلمة المكان وهو يحمل سلاحه، الذي ابتسم لها حين وجدها في عتبة الباب واقفة كملاك، وتمنى لو يعانقها ويقبلها، وانتظر أن تبادره بالكلام، ولكنها اندفعت نحوه مثل عاصفة، وطفقت تضربه بكلتا قبضتيها وهي تصيح: “كانت عروساً، وكانت سعيدة، لماذا قتلتها، لماذا”؟
بكت وهي تجيل بصرها حولها وفوقها: كانت السماء حمراء، وحبات الزيتون تسقط مثل الحصى، والحمامة التي فقدت رأسها عادت تحوم حولها في الأعلى، بلا رأس، ووجوه تعرفها تحيط بها، ثم تطارد الحمامة، وتمزق جسدها، تنتف ريشها، وتلتهم لحمها، كانت أفواههم الكبيرة مليئة بالدم. حلقت شجيرة من حديقة الدار في الأعلى وهي ترتدي ثوب العروس، زغردت وطارت بعيداً، تحولت أوراقها إلى ورود، وتهاوت بعدها مثل ندف الثلج، وسقطت جدران البيت، وتحولت النوافذ إلى سفن تسبح في الفضاء. ثم هبط ذلك كله على الأرض، ووجدت نفسها بين أذرع كثيرة وهي تنقلها إلى الداخل.
نظر الأب إلى زوجته بعتاب ودخل إلى غرفته، ونظرت أم خالد إلى ابنها بحزن، وتبعت زوجها، ونظر الابن إلى حماته باستفهام، وجلس على دكة صغيرة في زاوية من الحوش، حزيناً وحائراً، ونظرت الأم إلى ابنتها بعجز، وقادتها إلى غرفتهما، أما زينب وأخو سدرة، فقد كانا نائمين.
كان الشيخ قد كفَّ عن سوطها، وبدأ يرتل بعض الآيات، ولم تكف عن الهذيان بالكلمات نفسها التي كانت ترددها في ذلك اليوم:
“العروس تطير، الحمامة جريحة، الأشجار تبكي، الأشجار في الأعلى..حبات الزيتون تنزف..السماء حمراء، الحمامة البيضاء..دراجة الطفل، الولد، الدراجة تطير..”
وكانت قد فعلت ذلك في اليوم التالي؛ وكانت حينها في حوش الدار، وكان الوقت ليل.
وفي ذلك اليوم، اليوم الثالث، وكان الوقت صباحاً، خيم الصمت الثقيل بعد تجاذبات بين خالد ووالديه وأم سدرة، قال الوالد إن سدرة شجرة طيبة في أرض ملوثة بالملاحدة. وردت الأم : “كيف يكونوا ملاحدة وقد عثرنا في البيت على قرآن كبير الحجم، وأضافت أم سدرة: ووجدنا سجادة صلاة في غرفتنا”. انزعج الأب وهو يردد كلمات غاضبة وقال:إنكن ناقصات عقل ودين. وصمت.
وأكد خالد على أن هؤلاء قوم من الجن، وفي الجن ثمة من هم أخيار، وثمة من هم أشرار.
ولعل أهل هذا البيت كانوا من الأخيار، أضافت أم سدرة بشيء من الأسى، فنظر إليها خالد بضيق، وصمت قليلاً ثم غادر الحوش وهو يدمدم.
وتبادلت المرأتان النظرات وهزتا رأسيهما بعجز، ثم دخلت كل واحدة منهما إلى غرفتها بتثاقل.
هبط الليل سريعاً، وانبثق من كل زوايا البيت، وصبغ الأشياء بلونه القاتم: الشجيرات والنباتات والغرف والدكة والدراجة الصغيرة الملقاة في الزاوية، والأحذية أمام الأبواب، والثياب المعلقة على شريط الغسيل. وتسلل إلى دواخل السابحين بأضواء المصابيح داخل غرف الدار.
كان خالد في هذا الوقت في مقر الفيلق، يرجو قائده أن يؤمن بيتاً لحميه، ويتمنى أن يكون البيت جاهزاً، تتوفر فيه الثياب والأدوات المنزلية والفرش. فوالد خطيبته رجل مريض، ولقد فَقَدَ بيته في البلدة، هناك، في الغوطة، وهو من أنصار الفيلق ومؤيديه.
كانت الفصائل كلها تسعى جاهدة، ومنذ دخولها إلى عفرين، إلى الاستيلاء على أكبر قدر من البيوت في المدينة، وما حولها من الضواحي والقرى، وتوزيعها على عناصرها: لواء الحمزات، فصيل السلطان سليمان شاه، نورالدين الزنكي، السلطان مراد، أحرار الشام وغيرها. ولقد تسبب هذا الأمر إلى نشوب المزيد من الصراع بين هذه الفصائل، لجأت فيه إلى السلاح، وإلى دفع ما تبقى من أهل المدينة إلى النزوح، مثل عشرات الألوف ممن تركوا بيوتهم وغادروا المدينة قبيل سقوطها ليلة نوروز.
ووعد القائد خالداً خيراً، فإذا لم يتم العثور على بيت خال من أصحابه، فإنه سيعمل على إخلاء بيت من أصحابه، فعاد إلى البيت فرحاً مستبشراً، وقرر أن تكون سدرة أول من يزف له هذا الخبر، فقد يدخل إلى قلبها البهجة، ويزيل عنه الغمة الثقيلة.
كانت، في تلك الأثناء، عجوز تجوب الدار وهي تكنس باحته، ثم ترش الحديقة الصغيرة بالماء، وكانت سدرة في الحوش تتابعها بعيون زائغة وهي صامتة، دخلت العجوز بثيابها الغريبة إلى المطبخ، ثياب لا تشبه ماترتديه العجائز في الغوطة، لا في الشكل ولا في الألوان، فضفاضة وكثيرة الألوان، فتبعتها سدرة، وأخذت العجوز تفرغ الزيت من الصفيحة في قناني كثيرة، ثم بدأت تقطع شرائح الجبن، وترش عليها الملح، وتضعها في وعاء كبير مملوء بالماء المغلي.
كان تسير ببطء منحنية الظهر، ذكرتها بجدتها التي توفيت قبل سنوات، والتي كانت تحبها كثيراً، وودت أن تتقدم بمساعدتها،كما كانت تفعل مع جدتها، ولكنها لا تحسن التكلم باللغة التي تتحدث بها العجوز، وعندما شاهدتها العجوز تنظر إليها بطيبة؛ ابتسمت لها، ابتسامة شبيهة بتلك الابتسامة التي كانت تعلو وجه جدتها الحنون، وتمنت أن تبقى هذه الابتسامة على وجه العجوز، ولكنها انطفأت فجأة، وانعجنت تقاسيم وجه صاحبتها المجعد، وانطبعت تعابير الخوف عليها وهي تنظر إلى كائن يقف بالباب، والذي شاهدته سدرة ينظر إليها وهي تتحدث بكلمات غير مفهومة مع العجوز، متوسلة يديها ووجهها، وحين ازداد خوف العجوز، رجته سدرة مغادرة المطبخ على الفور، فانقلب وجه خالد إلى هيئة غريبة، قاسية وعنيفة، وبدأ يصيح في وجهها، ويركل كلَّ شيء. فسقطت العجوز على الأرض، وسال الدم من رأسها، وانسلت زاحفة من الباب، فلحقت بها سدرة طالبة منها البقاء، طارت العجوز وحلقت عالياً في سماء الحوش، فتبعتها سدرة وهي تنتقل في الفناء، من مكان إلى مكان، وهي ترجوها أن تبقى، تحولت العجوز إلى حمامة تهدل وترجو سدرة أن تعتني بالمؤونة، وتنتبه للجبن، فأحفادها كثر، وسيعودون من المدرسة جياعاً، فقد مات أباؤهم في الحرب. جلست العجوز على سلم البيت، وصعدت على السطح، وهبطت إلى حوش الدار، وشرعت تقفل الأبواب وهي تردد كلمات سريعة، عن مغادرتهم للبيت، ونسيانها قفل الأبواب.
كان خالد يلاحق سدرة، وهي تلاحق العجوز، وكان يصرخ بأعلى صوته، حتى أنه أيقظ جميع من في البيت، والذين خرجوا إلى الحوش، هلعين ومذهولين، ولم تكفْ عن ملاحقة العجوز في كل أرجاء الدار، ومناداتها.
“جدتي سأقفل الأبواب، اطمئني، نعم الجبن، والمفاتيح، والزيتون، والحوش”.
وتكررت هذيانات سدرة في الأيام التالية: اليوم الرابع والخامس والسادس.. وكان والد خالد يؤكد له في كل مرة، إن الجن قد تسلل إلى جسد خطيبته، ولم تعد تفيدك هذه الفتاة، لقد أفسدت علينا فرحة الفوز بهذا المكان الجميل.
ونفد صبر خالد، وضاق ذرعاً بهذا الحال، فلجأ إلى شيخ الفيلق. وكان له ذلك:
سياط وترتيل وأدعية لا تنقطع، وهذيانات سدرة، وتكرارها الكلمات ذاتها:
الأشجار جريحة، الزيتون ينزف، الولد يلعب بالدراجة، العروس ترتدي ثياب العرس. العجوز تقفل الأبواب.
انتزع السوط من يد الشيخ، وانهال عليها بالضرب، حينها فقط بكت بحرقة، وبكت الأشجار: أشجار الزينون والتفاح والرمان، وحلقت في الأعالي مثل طيور بلا أجنحة، وربتت الجدة على كتفها وقدمت لها الجبن، وسكبت في فمها زيتاً له طعم لذيذ، وتدحرجت حبات الزيتون النازفة على الأرض وهي تنهرس تحت قدمي خالد، وهطلت السماء زيتاً أحمر، وضمت العروس ثوبها إلى صدرها ودارت في المكان، وحملت الحمامة التي فقدت رأسها غصن زينون برجليها، فانكسر الغصن، وعادت إلى حمل غصن آخر ثم أخر، ليسقط الواحد تلو الآخر منها وينكسر، وهوت على الأرض. وقد اصطبغ بياض الجسد بالسائل الأحمر.
وعندما فرغ خالد منها..ربض على الأرض واستراح.