عفرين بوست – خاص
بات غير خفياً على أحد ما يحدث من سياسيات ممنهجة للتغيير الديمغرافي في إقليم عفرين المحتل الذي لطالما حافظ على هويته الكردية أمام سياسيات الصهر والتمييز إبان حكم البعث للسلطة في سوريا، إلا أن ما يحدث اليوم تحت راية دولة الاحتلال التركي أخطر بكثير فهو لا يهدد السكان الكرد الأصليين فقط بل يتعده لأهداف سياسية ربما تؤدي إلى سلخ أجزاء سورية وضمها لتركيا مستقبلاً على غرار ما حدث في لواء الاسكندرون وقبرص اليونانية.
عفرين المقسم إدارياً إلى سبع نواحي، عانى وما يزال يعاني من سياسة تهجير السكان الكرد الأصلاء وإسكان السوريين وغيرهم من الموالين لتركيا بدلاً عنهم، وركزت تركيا سياستها في الأيام الأولى للاحتلال على التغيير الديمغرافي في المناطق الحدودية وبالتحديد نواحي بلبله وراجو وشيه الواقعة على الحدود مباشرة وفي أقصى شمال غربي سوريا.
لكن مستقبلاً غامضاً وقاتماً ينتظر عفرين في ظل استمرار عمليات التغيير الديمغرافي وزيادة نسبة الولادات بين العرب والتركمان المغتصبين لعفرين مقارنة بنسبة الولادات بين الكرد، وهو ما سيخلق فجوة كبيرة بعد سنوات ليست بقليلة إن استمر الوضع الحالي قائماً.
بلبله نموذجاً
قُبيل الاحتلال كانت ناحيتا بلبله وراجو صافية بسكانها الكرد بنسبة مئة بالمئة، لا وجود للتركمان أو القرى العربية في تلك النواحي، إلا بعض العائلات الأرمنية التي هاجرت بعد المذابح التي تعرض لها الأرمن على يد الاتراك في القرن الماضي.
يقول حمزة رشو الشاب العفريني المنحدر من قرية قسطل خضريا التابعة لناحية بلبله، إن قريتهم باتت اليوم شبه عربية بعدما كانت كردية بشكلٍ كامل، ويسرد بعضاً من ذكريات طفولته التي كان يقضيها بين الفينة والأخرى في القرية الجبلية “كنا في الصيف نستمتع مع أصدقائنا باللعب واللهو في سفوح الجبال المحيطة بقريتنا حيث الطبيعة الخلابة ونقضي وقتنا في رعي الأغنام والزراعة وصيد العصافير”.
اليوم لم يبقى لدى رشو العديد من الأصدقاء من قريته، وحصل على أصدقاء جدد في مستقره القسري الجديد “منبج”، ويتابع “أتواصل مع أصدقائي عبر الشبكة العنكبوتية الغالبية منهم باتوا خارج سوريا، والقلة منها مازال في القرية ويعانون من الظلم والتعذيب النفسي، صديقي جارو الذي مازال في القرية ينقل لنا أخبارها المؤلمة، منزلنا باتت فيه عائلة تركمانية ومنزل عمي يقطنه العرب، لا أحد من جيلنا بقي في القرية الكردية التي تحوّل لسانها اليوم للعربية رغماً عن أهلها”.
هذا المشهد القصير من مخيلة رشو يبين مدى تغير الأحوال في عفرين، إذ رسخ التغير الديمغرافي هناك لغة جديدة وأزياء جديدة وحتى العادات اليومية تغيرت، إذ يرغب غالبية الكرد في الانعزال عن الغرباء القادمين من شتى البقاع السورية للحفاظ على خصوصيتهم أولاً وعدم الوقوع في المشاكل مع الغرباء المتحكمين بكل مفاصل الحياة في تلك القرى والمدن المحتلة ثانياً.
خطر متجدد في دول أخرى
لكن المشهد الأوسع في ناحية بلبله وراجو لا يتمثّل بالوجود العربي فقط، بل يتعده لإسكان التركمان بشكلٍ مدروس في تجمعات عدة على الحدود، في دلالة إلى أن تركيا تعمل على جمع شتات التركمان القادمين من حمص وحماه وباقي المناطق السورية في منطقة عفرين وأعزاز، وبالتحديد الشريط الحدودي الممتد من جرابلس إلى راجو، واستخدام هذا التجمع البشري التركماني لاحقاً سياسياً كما يفعل حالياً في العراق ومحاولته الوصول إلى كركوك وتلعفر والموصل بحجج عدة مشابهة لتلك التي احتل بها عفرين، وكأن تاريخ 2018 سيعاد في العراق هذا العام، فهل ستتيقظ الحكومة العراقية لذلك؟!!
مخطط تركي عمره عشرات السنين
في البحث والتحري واللقاء مع بعض الشخصيات الفاعلة في المشهد السوري، يقول صحفي كردي فضل عدم ذكر اسمه أنه في أعوام بين 2002 و2010 حاول الاتراك بشتى الطرق السيطرة على الشريط الحدودي عبر شراء الأملاك والأراضي بأسماء وهمية، وكان أوجها عند تسلم مصطفى ميرو ذو الاصول التركمانية لرئاسة مجلس الوزراء السوري وكان محافظ حلب قبلها، وجرى وقتها وضع مخطط لشراء آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية في الشريط الحدودي لصالح الحكومة التركية ومن ضمنها محاولة ضم بعض الأملاك العامة لهذه الصفقات التي كان لبعض المتنفذين في الدولة يد فيها.
ويستطرد الصحفي الحديث الخاص لـ “عفرين بوست” قائلاً “بطرق خاصة كشفت الحكومة السورية ذاك المخطط وأفشلته وأصدرت قراراً بضرورة حصول عقود البيع في الشريط الحدودي على موافقات أمنية إذا ما كانت عقود البيع بين أناس لا يمتّون بعلاقة مع العائلة من الدرجة الأولى بين بعض، وبهذا الشكل فشل المخطط التركي وعادت ملكيات الأرضي للسوريين مجدداً إلا أن هذا الحدث لم يأخذ بُعداً إعلامية كون العلاقات الرسمية بين البلدين كانت جيدة”.
ويربط الصحفي بين ما يحدث اليوم وما كان مخطط قبل ثلاثين سنة، ويُشير إلى أن مخططات تركيا مستمرة للسيطرة على أجزاء من سوريا، وما يحدث في عفرين من ترسيخ للتغير الديمغرافي يصب في مصلحة تركيا التي حاولت امتلاك الأراضي أيام السلم، أما في حالة الفوضى والاحتلال اليوم باتت الأجواء سائدة لها لتنفيذ مخططها بكل الأساليب ولا يستبعد من قيام تركيا بشراء الأرضي عبر سوريين موالين لها بشكلٍ رسمي في العقود السورية لتصبح مخططها سارياً لمدة طويلة وهي ضم هذه الأراضي لتركيا مستقبلاً”.
أكثر من 90 بالمئة نسبة التغيير في بلبله
وكان المحامي الكردي ابن عفرين السيد حسين نعسو قد نشر معلومات خطيرة حول نسبة التغيّر الديمغرافي في ناحية بلبله والتي تجاوزت 90 بالمئة، وذلك على حسابه الخاص في تطبيق الفيسبوك، ويقول نعسو خلال منشوره إن التغيير الديمغرافي لم يعد خافياً على أحد، وأخذ النسبة المئوية للسكان الكرد مقارنة بالعرب والتركمان المغتصبين للأراضي والبيوت الكردية، وأشار إلى أن هذه النسبة تدل على أن تركيا تعمل ضمن مخطط دقيق وأهداف مستقبلية خطيرة.
وبحسب الجداول التي نشرها نعسو والتي استندت إلى إحصاءات من داخل عفرين، لم يبقى في ناحية بلبله وقراها 43 إلا 8683 نسمة من الكرد في حين بلغ عدد العرب المغتصبين لمنازل الكرد 18143 شخصاً وعدد التركمان 2541 شخصاً، وهنا نبتعد عن المصطلحات الأساسية للإشارة إلى تعداد بالسكان بالـ”نسمة” كون السكان الحالين هم ليسوا من أصل المنطقة.
ويقول نعسو في منشوره إن ناحية بلبله منذ الأزل هي منطقة صافية كردية ولا وجود للعرب أو التركمان فيها، وهذا يتطابق مع الإحصاءات الرسمية للحكومة السورية في عام 2004، وكذلك المراجع التاريخية والكتب الخاصة بمنطقة عفرين.
منظمات تركمانية لها اليد العليا
ويجدر بالذكر إلى أن تركيا عملت عبر منظمات تتبع لها إلى إنشاء ثلاث مستوطنات في ناحية بلبله وأسكنت فيها العرب والتركمان كقرى مستحدثة في المنطقة، إضافة إلى أكثر من 15 مستوطنة أخرى في باقي نواحي عفرين، وتم تسميتها أسماء عربية إسلامية وبنت فيها مرافق خدمية ومن ضمنها الجوامع على الطراز العثماني.
والأمر الهام الآخر هو نشاط مجموعات شبابية تركمانية تتبع للدائرة الدينية في تركيا مباشرة ضمن قرى ناحية بلبله وباقي مناطق إقليم عفرين المحتل، وتستهدف هذه المجموعات الأطفال عبر دروس تحفيظ القرآن الكريم والدروس الدينية وفي بعض الأوقات كمراكز تدريب ومعاهد دراسية مصغرة ونشاط “تجمع شباب تركمان سوريا” بشكلٍ كبير في بعض القرى الكردية قبيل ثلاثة أعوام، وتلقى هذا التجمع دعماً مالياً كبيراً من الحكومة التركية مباشرة.
وبالعودة إلى بداية التدخل التركي في الثورة السورية ومصادرة القرار فيها، كان عبر تأسيس كتائب وفصائل تركمانية منها ما هو موجود اليوم في عفرين وهي ميليشيات الحمزات والعمشات والسلطان مراد، وتم تصفية قادة الكتائب التي ظهرت قبل عام 2013 وبهذا تمكنت تركيا من توجيه الدعم الغربي والعربي لكتائب معينة تقودها شخصية تركمانية، واليوم تستخدم تلك النفوذ في تمرير سياساتها في سوريا عبرهم.
كانت قرية!!
بُعيد احتلال عفرين، فرض الجيش التركي طوقاً أمنياً على بعض القرى ومنع أهاليها من العودة لها وكان وقتها 12 قرية خالية من سكانها بشكلٍ كامل، وبعد سنوات تم السماح لبعض السكان بالعودة وبقيت بعض القرى كمراكز عسكرية ولاسيما تلك الواقعة بالقرب من سفح جبل هاوار وكذلك قرى تابعة لناحية راجو كقرية درويش التي تحولت إلى قاعدة عسكرية تركية بالكامل.
مستقبل مرعب
ويقول “علي” من قرية قره كول التابعة لناحية بلبله، إن السكان الكرد الباقين في القرية يقل عن النصف في حين اغتصب التركمان والعرب منازل الكرد المهجرين قسراً وهو واحد منهم، يقطن علي اليوم في حي الشيخ مقصود بمدينة حلب، وأكثر ما يثير حفظته اليوم هو أن عائلة تركمانية تسكن منزله وفي المناسبات يرفعون العلم التركي على منزله الذي كان في يومٍ من الأيام يرمز للكردية فقط.
ويبلغ عدد التركمان في قرية قره كول 151 شخصاً في حين عدد العرب يتجاوز 316 شخصاً اليوم، وهذه الأرقام بالنسبة لـ علي مرعبة، إذ لم يتذكر قط أن كلمة عربية كانت تلفظ في قريتهم خارج مدرسة القرية، وأن السكان الاصلاء هم الكرد فقط، ويقول “بعد عشر سنوات ستكون النسبة أفظع من اليوم، العودة معدومة والكرد الباقون جزء منهم من كبار العمر، ونسبة الولادات عند العرب والتركمان أكثر من الكرد وهذا يعود لأسباب ثقافية عندهم” وبهذا يرى علي أن مستقبل المنطقة مجهول في حال استمرار الوضع الراهن في عفرين وعدم وضع حلول لمعالجة التغيير الديمغرافي وإعادة الكرد إلى سكناهم الأصلي.
هل يمكن مواجهة خطر التتريك؟
وفي معرض تعليقه على الوضع الراهن في عفرين والتركيز على ناحية بلبله، يُشير الصحفي الكردي الذي مارس الصحافة في جرائد الحكومة السورية وزمن الإدارة الذاتية، إلى أن تركيا تعلم جيداً أن العالم في تغيّر مستمر ومنطقة الشرق الأوسط ستطرأ عليها تغيرات كبيرة في المستقبل القريب، لذا تستغل الفرص السانحة لها لتطبيق سياستها الاستعمارية بشتى الطرق، في عفرين تركيا على قناعة أن الأزمة السورية إن تم حلها بالطرق السياسية لن يكون للوجود العسكري التركي أي أهمية لذا تلجئ للاستيطان وبناء تجمعات بشرية موالية لها كجسم دخيل على بنية المنطقة وهذا لا ينطبق على عفرين فحسب بل كامل الشريط الحدودي، فتركيا لا تعمل نصرة للعرب السنة بل تستخدمهم لمشروعها القائم على دعم التركمان وتوطينهم في أراضي الكرد والعرب سيان.
وعن طرق مواجهة هذا الخطر يقول “أولاً القضية لها أبعاد سورية ودولية، الحل السياسي السوري هو الأساس ويجب أن يشير الحل إلى عودة كل سوري إلى مكانه الأصلي، والبعد الثاني كردي وهو أن يجبر التيارات الكردية العاملة في فلك تركيا على تغير سياستها واعتبار الانتهاكات والتغيير الديمغرافي في عفرين جريمة وتوحيد الجهود دولياً لتسليط الضوء على هذه الممارسات ولاسيما بعد صدور تقارير دولية عدة تؤكد هذه الجريمة وتحمل تركيا المسؤولية عليها.
ويصف الصحفي الكردي أهالي عفرين الباقين فيها بالشجعان، ويؤكد على ضرورة تمسكهم بالبقاء في ظل عدم قدرة بعض المهجرين قسراً للعودة إليها لأسباب عدة واستمرار الانتهاكات والاحتلال التركي ووجود ميليشيات إسلامية متشددة من بقايا داعش تدير عقول تركمانية تركية.
في الختام يبدو أن خطر التغيير الديمغرافي الذي عم سوريا، يظهر جلياً في المناطق الكردية وكأنه ثمة اتفاق ضمني بين القوى الإقليمية المتداخلة في سوريا وحتى الحكومة في دمشق، والمستقبل سيظهر هذه التوافقات بلا شك، وإنْ استمرّ الوضع القائم سيكون المستقبل قاتماً لا محال، فهل سنشهد يقظةً كردية وسورية تجاه الحالة المزرية القائمة في عفرين؟!.