عفرين بوست – خاص
لم يكن اتخاذ قرار العودة إلى مدينة عفرين بعد إحكام قوات الاحتلال التركي والميليشيات الإسلامية التابعة له قبضتها عليها، بالأمر السهل، نظراً للصورة التي شكلها المسلحون الإسلاميون في أذهان أهالي عفرين طيلة 58 يوما من العدوان، وما رافقه من مشاهد مصورة نشرها المسلحون الغزاة تظهر أسلوبهم في استسهال عمليات التصفية والقتل، وبخاصة ذلك المقطع الذي يظهر قيام المسلحين بتصفية فلاح كرديّ بعد سلبه جراره الزراعي في إحدى قرى عفرين الحدوديّة والإمعان في إطلاق الرصاص عليه، وكذلك مشاهد التمثيل بجثمان المقاتلة “بارين كوباني”، وكذلك الكثير من المقاطع المصورة التي تحدث فيها المسلحون بعبارات الكراهية وأظهرت دوافع الحقد.
أمينة وقرار العودة
إلا أنَّ كلَّ ذلك لم يقف حائلاً أمام “أمينة – اسم مستعار”، من الإقدام على مغامرة العودة إلى عفرين، وتحمل تبعات ذلك من المخاطر والعواقب.
فضّلت المرأة الكرديّة الأربعينيّة أمينة العودة إلى عفرين على العيش في المخيمات في مناطق الشهباء التي توجهت إليها عشرات الآلاف من أهالي عفرين مع اشتداد المعارك وحصار المدينة ونتيجة التهجير القسريّ والعمليات العسكرية، رغم أنها كانت تدرك مسبقاً أنَّ المسألة في غاية الخطورة، وأنها تحمل روحها على كفها، ووضعت نصب عينيها أسوأ الاحتمالات حتى الموت.
تقول أمينة: “أول ما رجعنا ع عفرين كنا حاطين أرواحنا على كفوفنا، وقلنا رايحين للموت، يا يقتلونا كلنا، أو بيخلونا ندخل، ووصلنا إلى حاجز للمرتزقة، وفتشوا وحققوا معنا، بس أول ما شفنا أعلام تركيا والحر بعفرين، كان أحسننا كلنا بشعور خانق، يصعب وصفه، وكانت الصدمة قوية جداً”.
أكثر ما آلمها
تتابع أمينة وصف أولى الانطباعات لدى عودتها، فقد اعتراها الشعور بالصدمة من الوجوه الغريبة الملتحية للحظات، إلا أن أكثر ما آلمها بعد ذلك، هو مشاهد الخراب والدمار في مدينة عفرين، ورؤية الأعلام التركية وأعلام الميليشيات المرفوعة في كل مكان، وتقول السيدة الأربعينية الكردية: ” كانت عفرين حزينة جداً وكأنها تصرخ وتبكي، فقد تغير بسرعة، شعبها وسكانها اليوم أناس لا يعرف أصلهم، ولكن أصعب ما شاهدناه هو أعلام الاحتلال ترفرف فوقنا”.
استغرق الكابوس الثقيل طويلاً جاثماً على صدر السيدة الكردية، ومضت الأيام، وأوشك العام الثالث على الانقضاء، ورغم أنه من الصعب الاستمرار في هذه البيئة، إلا أنها ترفض أن تترك عفرين وراءها رغم كل الآلام والمصاعب، وعللت ذلك بالقول:” بحس عفرين بترابها وأشجارها، خايفة أتركها، وهاد يلي عم يصبرني، لأنه متل ما بحب عفرين هي كمان بتحبني.. إحساااس”.
مسلح يخاطب كلباً: أتتجرأ على النباح في وجهي يا كُردي!
التجربة المريرة، التي مر بها “أبو خليل- اسم مستعار” بعد وصوله إلى قريته الواقعة في ناحية شران، لا تزال عالقة في ذهنه رغم مضي نحو ثلاثة أعوام على احتلال عفرين.
يقول أبو خليل إنه لدى وصوله إلى قريته برفقة زوجته قادماً من عفرين، كانت القرية التي تضم نحو 500 منزلٍ، خاوية على عروشها، خالية من سكانها، فقد كان أول الواصلين إليها، ومن بعدها عاد عدد قليل من أهالي القرية، قادمين من مدينة عفرين أو مناطق الشهباء.
يستذكر المواطن الكردي الخمسيني أبو خليل أولى لحظات وصوله إلى منزله قائلاً: “كانت قريتنا فيما مضى عامرة وصاخبة، تضج بالحياةِ، ولكنها بدت موحشة، وكان الخوف والقلق من القادم المجهول هو العنوان الأبرز.
يتابع أبو خليل سرد الساعات الأولى من وصوله: “ولكن بعد ساعات من وصولنا إلى منزلنا، وصلت عربة عسكرية على متنها مسلحون ملتحون، واقتحموا الدار، وقالوا لنا: من سمح لكم بالدخول إلى هذا المنزل، فأجابهم بدون تردد: “ممن تريدني أن آخذ الإذن.. إنه منزلي!” وانصرف بعدها المسلحون.
يستغرق أبو خليل في ذكرياته المريرة التي مر بها، ويحكي لـ “عفرين بوست” بعضاً مما شهده، قائلاً: “ذات يوم صعدت عربة عسكريّة إلى قريتنا، ولدى وصولها إلى أمام منزل جاري، خرج كلبهم، وراح يهجم على العربة العسكرية، فقد أحس بغريزته أنهم غرباء عن القرية، إلا أنّ مسلحاً ترجل منها وصرخ عليه قائلاً: “أتتجرأ بالنباح في وجهي أيها الكرديّ! ولقم سلاحه وأفرغ مخزنه في جسد الكلب وقتله، وبعد ذلك انصرفوا”. ويضيف أبو خليل: اقشعر بدني من الإهانة وصُدمت بحجم العنصرية التي تكتنزها نفوس الغزاة وتملأ قلوبهم، إزاء الكُرد”.
وروى “أبو خليل” حادثة أخرى حدثت أمام أنظاره في الأيام الأولى للاحتلال، فقد أقدم المسلحون على إشعال النيران في منزلٍ في الجوار بتهمة شغله منصباً قيادياً في الإدارة الذاتية السابقة، ويواصل الحكاية: “ظلت النيران مشتعلة طيلة ثلاثة أيام، كان ذلك مشهداً مؤلماً، فقد أردوا منه بث الرعب في نفوس الأهالي العائدين إلى القرية، ليدفعونا إلى ترك ديارنا، وهذا ما أسرّه لي أحد المسلحين الذين أقدموا على تلك الفعلة، مستغرباً من بقائنا رغم ذلك!”.