في دراسة عنوانها “لا شيء ملكنا بعد الآن” انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية في عفرين السورية”، يسلط الكاتب والصحفي”توماس ماكغي- Thomas McGee ” الضوء على مسألة حق الكرد في التملك، ويتدرج البحث من مقدمة وتحديد للمنهجية التي اعتمدت شهادات حية، ومن ثم موجز عن الحالة السائدة قبل الأزمة، وخلال العدوان التركي على عفرين وبعده.
مقدمة: موقع عفرين في أزمة السكن والأرض والملكية في سوريا
تتناول الدراسة انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية المرتكبة في منطقة عفرين منذ بدء “عملية غصن الزيتون” وفقاً لمسألة انتزاع الملكيات بأنواعها للأراضي ودور السكن أعمال النهب ومصادرة المنازل والمحلات التجارية، بالإضافة إلى نهب محصول الزيتون.
تلفت الدراسة إلى تزامن قضايا السكن والأرض والملكية في سوريا مع التغيرات الديمغرافية بسبب النزوح، وتشير إلى المسألة تأخذ بعداً في عفرين لجهة دور تركيا التي لها تاريخ من التهجير القسري تجاه سكانها الكرد، ويُقدم بعداً إثنياً واضحاً لتحليل التطورات في عفرين.
المنهجية
تستقي الدراسة معلوماتها من مصادر حية وهي مقابلات أجرتها مع 28 شخصاً ممن فقدوا منازلهم وأراضيهم وممتلكاتهم في عفرين إما الخاصة بهم أو بأسرهم. وكذلك من وثائق المنظمات الرسمية والصحفيين والناشطين من مختلف الانتماءات السياسية، وفعاليات مختلفة.
تاريخ انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية للأكراد في سوريا
تشير الدراسة إلى القيود التي فرضتها الحكومة السورية قبل الأزمة على حقوق الكرد في السكن والأرض والملكية في منطقة عفرين الحدودية، مثل مشروع “الحزام العربي” الذي أقرّته الحكومة السورية لعزل الكرد في سوريا عن الكرد في تركيا، وهو ما تم توسيعه برعاية الدولة التركية والميليشيات السورية الموالية لها.
عام 1952، أصدرت الحكومة مرسوماً “يحظر تشييد أو تطوير أو نقل ملكية الأراضي الواقعة في المناطق الحدودية مع تركيا”، بحجة عدم الإخلال بالتناسب في المدن ذات الأغلبية الكردية.
بدأت الحكومة السورية تنفيذ برنامج شامل لحرمان الكرد من حقوق المواطنة شرق سوريا. وفي عام 1962، أجرت الحكومة إحصاءً سكانياً خاصاً في محافظة الحسكة، وحرمت نحو 120,000 كردي الجنسية السورية. وهؤلاء ممنوعون من امتلاك أو شراء أو بيع أو نقل المساكن والممتلكات والأراضي. وإبان الوحدة مع مصر في الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961)، أعادت الحكومة السورية توطين العائلات العربية، في مدينة عفرين ومنطقة جنديرس
وشدد المرسوم 49 لعام 2008 على أوجه الحظر القائمة على نقل الممتلكات والسكن ضمن نطاق 25 كم من الحدود الدولية دون إذن الحكومة المركزية، والتي لم تُمنح للكرد أبداً.
عفرين وعملية غصن الزيتون
قبل العدوان التركي على عفرين احتضنت عفرين 125,000 نازح. وأطاح العدوان بحالة الاستقرار بالمنطقة، وفي بداية العملية العسكرية التركية، تم تهجير القرى الحدودية. وباستمرار الهجوم حدثت موجات ثانوية من النزوح، ما زاد أعداد النازحين في مدينة عفرين. وأفادت الأمم المتحدة في الأيام الأولى بأن نحو 5000 شخص نزحوا نحو المدينة، وتضاعف الرقم عشر مرات بحلول نهاية شباط/فبراير وفقاً لمصادر ميدانية. وفي 8 آذار/مارس، وبينما كانت وحدات حماية الشعب تستعد لاستعادة عفرين، بدأ المدنيون بالهرب من المدينة متجهين شرقاً نحو تل رفعت، وتمكن البعض من العبور إلى الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة السورية. وفي 18 آذار/مارس، بعد 58 يوماً من المقاومة، انسحبت وحدات حماية الشعب والسلطات الكردية تدريجياً من عفرين، وأجلت جزءاً من أهالي المدينة.
أفاد جميع من تمت مقابلتهم بأن الغارات الجوية التركية والغارات المدفعية التي شنها الجيش التركي وشركاؤه السوريون لم تقتصر على الأهداف العسكرية فحسب، وإنما ألحقت أضراراً بالغة بالبنية التحتية للخدمات العامة، بما في ذلك المستشفيات ومحطات المياه، ودمرت منازل المدنيين. كما أجبر قطع إمدادات المياه عن المنطقة السكان على المغادرة. واستهدفت الغارات التركية أيضاً مواقع أثرية، ما أثار اتهامات بأن تركيا تسعى للقضاء على آثار الثقافة والتاريخ الكردي في المنطقة. ولم تنتهِ انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية بتوقف العمليات العسكرية، إنما دشنت مرحلة جديدة من نهب الممتلكات والاحتلال المساكن.
انتهاك حقوق السكن والأرض والملكية بعد إطلاق عملية غصن الزيتون
الفوضى الأولية
من اللحظة الأولى لسيطرة قوات غصن الزيتون على عفرين، تأزمت قضايا السكن والأرض والملكية أثناء الفوضى بين الفصائل السورية المختلفة المدعومة من تركيا (تحت قيادة الجيش الوطني). ووصف أحد من تمت مقابلتهم الوضع بأنه “قانون الغابة”.
وسائل أصدرت وكالات الإعلام الدولية سلسلة تقارير حول مقاتلي الفصائل السورية المتحالفة مع تركيا الذين نهبوا منازل المدنيين النازحين. وأشار الأشخاص الذين تمت مقابلتهم في هذه الدراسة باستمرار لمثل هذه الأحداث. على سبيل المثال، قال جوان، الذي هرب من عفرين في 15/3/ 2018 وعاد بعد ذلك عدة مرات لتقييم الوضع: “لقد سُرقت سياراتنا وزيتوننا ومولدات الكهرباء، واستولى الغرباء على منازلنا ومتاجرنا”. وعلق الصحفي المواطن ريبوار قائلاً: “كانوا يسرقون كل شيء… رأى أقاربنا مقاتلين يمشون مع دجاجات الناس! أي شيء لم يتم تقييده سُرق على الفور، وسرعان ما قاموا بفك مولدات كهربائية وسرقوها أيضاً”.
الجماعات المسلحة التي تعمل مع القوات التركية تقوم بنهب وتدمير الممتلكات المدنية في مدينة عفرين والقرى المجاورة، مما أدى إلى تفاقم محنة المدنيين”. ويعتقد مقاتلو “الميليشيات” بأن الاستيلاء على ممتلكات أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي الكفار أمر مشروع وحلال، وإطلاق “اتهامات بالانتماء إلى حزب الاتحاد الديمقراطي أو وحدات حماية الشعب لا أساس لها من الصحة” كذريعة لتجريد المدنيين، ولا سيما الأغنياء من حقوق الملكية ومصادرة ممتلكاتهم.
بدأ “مسلحو الميليشيات” في غضون أسبوع بعد انتهاء عملية غصن الزيتون، بإحضار أقاربهم من إدلب وشمال حلب التي تسيطر عليها المعارضة وإسكانهم في منازل خالية في عفرين. فيما تعذر على المدنيين الوصول إلى عدد من القرى بشكل كامل بسبب استخدامها كقواعد عسكرية من جانب الجيش التركي، بينما كان يُحظر دخول مواقع أخرى بسبب انتشار الذخائر غير المتفجرة.
كانت عفرين مقسمة فعلياً بين الفصائل المختلفة لقوات غصن الزيتون (الجيش الوطني)، اعتمد الوضع فيما يتعلق بالنهب ومصادرة الممتلكات في مكان معين بشكل عام على الفصيل المتواجد أو مجموعة الأفراد المسيطرة.
يعتبر السكان المحليون أن عمليات النهب الفوضوي الواسعة واستيلاء مقاتلي الفصائل المسلحة على المنازل تم التغاضي عنها من جانب قادة عملية غصن الزيتون. ويدعم هذا الرأي وثيقة رسمية مسرّبة من الجيش الوطني، عبر قسم الأمن المشترك في عفرين في ناحية راجو. وتفرض الوثيقة عقوبات على حرية حركة البضائع المنهوبة عبر نقاط التفتيش في المنطقة على أساس أنها “غنائم حرب”. وشدد الأشخاص الذين تمت مقابلاتهم على قيام الفصائل المدعومة من تركيا أحياناً بإجبار سكان محليين على تقديم معلومات عن الأوضاع السياسية والمالية لأصحاب منازل معينة بهدف المصادرة. وأوضح أحد الذين تمت مقابلتهم أنهم “كانوا يعرفون من لديه أقارب أثرياء في الخارج ويمكنه دفع فدية كبيرة أو رسوم استرداد المصادرات.
انتشر الجيش التركي في مواقع استراتيجية داخل المنطقة. ووفقاً لناشط: “كان واضحاً من السرعة التي أقام بها الجيش التركي قواعد عسكرية في المباني الرئيسية في كل من أحياء الأشرفية والمحمودية، بالإضافة إلى تللف (Têlêf) نقطة اتصالات)، أنه حدد المواقع التي يريد السيطرة عليها قبيل العملية”. واتضح أن “جميع الانتهاكات تقع تحت أعين الدولة التركية وإشرافها”.
النقاش المتعلق بقضية النازحين داخلياً
استيعاب النازحين القادمين من دمشق وتغيير التركيبة السكانية
“إنهم يعيشون في منازلنا كأنها قصور بينما نعيش نحن في الخيم
بدا بعد أسبوع من احتلال مدينة عفرين “التوطين الجماعي والمنظم للمدنيين ومقاتلي المعارضة الذين تم إجلاؤهم من ريف دمشق في عفرين”. وفي 20 نيسان/أبريل، أبلغت وسائل الإعلام الكردية عن قدوم 31 حافلة كبيرة تقل نحو 1600 مقاتل من فصيل جيش الإسلام مع عائلاتهم من ريف دمشق عبر إعزاز، شمالي حلب، إلى مدينة عفرين. وبحسب لجنة توثيق تابعة لإدارة عفرين الكردية السابقة، قام الجيش التركي في اليوم التالي بإحضار الحافلات إلى بلدة جنديرس، حيث تم توطين نحو 200 عائلة. وقد “سهلت الدوريات العسكرية التركية دخول القوافل عند نقاط التفتيش حول منطقة عفرين، قامت الفصائل السورية المدعومة من تركيا بتخصيص منازل للنازحين داخل المنطقة.
قامت الفصائل المسلحة بطرد السكان ومصادرة الممتلكات بهدف إعطاء مساكن للنازحين داخلياً لتحقيق مكاسب مالية غالباً. وأشار العديد ممن قوبلوا إلى التكتيكات المستخدمة لتخويف سكان المنطقة ودفعهم إلى التخلي عن منازلهم أو بيعها بأسعار قليلة.
أشارت الدراسة إلى تورط أحرار الشرقية وفرقة الحمزة بشكل خاص في الاستيلاء على منازل السكان المحليين. وتضم أحرار الشرقية في الغالب مقاتلين من دير الزور ومنطقة البادية شرق سوريا. وذكر أن مقاتلي أحرار الشرقية أنهم لن يتمكنوا من العودة إلى غرب دير الزور الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية.
“فرقة الحمزة احتلت المنازل والممتلكات بلا رحمة، واستأجرت متاجر مسروقة وأصدرت تصاريح لإعادة توطين العرب الذين شرعوا بأعمالهم في أماكن الأكراد الغائبين. وتدعم التقارير على الإنترنت الادعاءات بأن الفرقة كانت متورطة في الاستيلاء على المنازل وسرقة الزيتون وزيت الزيتون في موسم حصاد 2018، وحتى قامت بطرد النازحين داخليا لإيواء أقارب قادتها”.
توقفت الدراسة لدى ما حدث في ناحية معبطلي في تموز/يوليو 2018 “حين نظم النازحون داخلياً احتجاجات للمطالبة بالبقاء. وكانت الشعارات من قبيل: “إلى من يريدون إخراجنا، أعيدونا إلى بيوتنا بضمانات أمنية”، و”لا تشردوا المشردين”. وأشارت إلى ترابط المشكلة في ريف دمشق وعفرين وقالت “يساهم الفشل في حل مثل هذه النزاعات ومعالجة الانتهاكات الأخرى لحقوق السكن والأرض والملكية في عدم عودة السكان الأكراد الأصليين وحرمانهم أكثر من حقوقهم، مما يثير الشكوك حول أجندات الجهات الفاعلة السورية والتركية المنخرطة في عفرين”.
إدارة قضايا السكن والأرض والملكية في أعقاب عملية غصن الزيتون في منطقة عفرين: تقويض عمل الهياكل المدنية المحلية
تم الاستيلاء على المنازل في منطقة عفرين أولاً فوراً، وقام عناصر الفصائل المسلحة المتنافسة بإعلان ملكيتهم لها عبر كتابة أسمائهم على الجدران أو كتابة عبارات مثل “مُصادرة” أو “محتلة” على المباني. ورغم إنشاء مؤسسات مدنية محلية لاحقاً لإدارة فترة ما بعد الحرب، إلّا أن الفصائل المسلحة لا تزال تهيمن على واقع حقوق السكن والأرض والملكية في عفرين. وأنشأت تركيا واجهات فاعلة من المعارضة السورية بصورة مشتركة المجالس المحلية وقوات الشرطة المدنية، لكن الفصائل المسلحة منعتها من القيام بدور فعّال في معالجة مخاوف المجتمعات المحلية، ومن ضمنها تلك المتعلقة بحقوق السكن والأرض والملكية.
فشل المجلس المدني الأول، الذي تألف بمعظمه من أشخاص يقيمون في تركيا، في الحصول على قبول محلي في سوريا. وفي 12 نيسان/أبريل، تم تشكيل مجلس محلي في منطقة عفرين، تلته مجالس محلية مماثلة في المناطق الفرعية الأخرى. وتعمل المجالس المحلية شكلياً تحت إشراف الحكومة السورية المؤقتة و”مجلس محافظة حلب الحرة” التابع لها، لكنها تخضع للرقابة التركية عن كثب، وتعاني من تدخل الفصائل المسلحة في عملها. وبالمثل، ما زال دور قوات الشرطة المدنية التي أُسّست بالتعاون مع كل مجلس محلي، والتي درّبتها تركيا، محدوداً بسبب احتكار الفصائل المسلحة للسلطة.
يُظهر رصد المجالس المحلية في النواحي السبع التابعة لعفرين على منصات التواصل الاجتماعي الجهود المبذولة لتنظيم المعاملات الخاصة بالسكن والأرض والملكية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، ففي تشرين الأول/أكتوبر 2018، دعا المجلس المحلي لمنطقة عفرين أصحاب الأملاك إلى ضرورة مراجعة مكتب التوثيق العقاري في المجلس مصطحبين معهم كافة الثبوتيات لتصديقها بصفة رسمية. وأكد المجلس أنه “لن يعترف بأي عملية بيع أو شراء ممتلكات حدثت مؤخراً، كونها غير شرعية ولا تحمل أي صفة قانونية”. وفي الآونة الأخيرة، أصدر المجلس المحلي في بلدة جنديرس إشعاراً بأنه يجب الحصول على موافقة مكتبه الفني على جميع عمليات البيع أو الشراء الخاصة بالممتلكات، بعد النظر في شرعيتها. لكن من الناحية العملية، يبدو أن المجالس المحلية وهيئات الشرطة المدنية المرتبطة بها لا تتمتع بالنفوذ المطلوب لتنفيذ مثل هذه السياسات عندما تكون الجهات المسلحة ضالعة بالأمر. وكما أشار أحد الأشخاص الذين تمت مقابلتهم: “ليس بمقدورهم فعل شيء. وحتى إذا اعترف المجلس بأن المنزل ملكك، فهو والشرطة المدنية غير قادرين على تطبيق أي إجراء”.
يتجلى ضعف المجالس المحلية في عدم قدرتها على تطبيق لوائحها الخاصة المتعلقة بتحصيل رسوم محاصيل الزيتون. وأفاد الأشخاص الذين تمت مقابلتهم ومصادر إعلامية بأن الفصائل فرضت إتاوات خاصة بها إضافةً إلى رسوم المجالس المحلية، مما جعل العملية غير مربحة للمزارعين في عفرين. وبالمثل، لم تتمكن المجالس المحلية من منع الفصائل المسلحة من قطع الأشجار أو سرقة الزيتون.
المجالس المحلية هي هياكل “شكلية” موجودة أساساً لتنفيذ أوامر السلطات التركية. وعلى حدّ تعبير أحد الناشطين من عفرين: “إنهم فقط يختمون الأوراق ويتقاضون رسوماً إدارية، وغير ذلك، ليس لديهم القدرة على التدخل بقضايا السكن والأرض والملكية…
أجندة تركيا بشأن حقوق السكن والأرض والملكية في عفرين
رغم الانتشار الواضح لانتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية في منطقة عفرين، ولكن من الصعب محاسبة الأطراف المسؤولة عنها. وعلى نطاق أوسع، لا توفر القيود التشغيلية للقانون الدولي أي وسيلة لإنصاف السكان المحليين المتضررين جراء الانتهاكات التي وقعت بحقهم. يُعزى ذلك جزئياً إلى الصعوبة التي يواجهها المجتمع الدولي في تحديد طبيعة العلاقة بين الدولة التركية والفصائل السورية الموالية لها، والتي تنشط تحت مسمّى الجيش الوطني. وقد صرّحت الأمم المتحدة بأنها غير قادرة على التحديد الدقيق لأية درجة تخضع منطقة عفرين وضواحيها تحت سيطرة القوات التركية أو الجماعات المسلحة (السورية).
تكشف دراسة دور تركيا في عملية غصن الزيتون عن كثب أنها لم تموّل وتدرّب وتجهّز الفصائل السورية فحسب، بل شاركت أيضاً في تنظيم وتنسيق وتخطيط أعمالهم العسكرية جنباً إلى جنب مع عملياتها. أولاً، تمّت قيادة العملية والتخطيط لها من جانب القوات الخاصة التركية التي دخلت عفرين مع الفصائل السورية التي دربتها وجهزتها. ثانياً، كان هناك تنسيق واضح للغارات الجوية التي نفذها سلاح الجو التركي، والتي سهّلت تقدم القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها في المنطقة. إلى جانب ذلك، بالإضافة إلى إعلان مسؤولين أتراك عن إطلاق العملية وانتهائها “بنجاح”، قدمت الدولة التركية نفسها بشكل صريح على أنها الطرف الضامن للاستقرار والازدهار بعد انتهاء العملية.
أن انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية في منطقة عفرين تخدم بالمثل هدف تركيا في مواجهة مشروع “الحكم الذاتي” الكردي عن طريق تغيير التكوين الديموغرافي في المنطقة. وتزامنت عمليات التهجير وانتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية مع ظهور هياكل وشخصيات سياسية جديدة مدعومة من تركيا وهي: الوالي والمجلس المحلي في عفرين، وشخصيات من مجلس الأمناء تم تعيينهم ليحلوا محل رؤساء البلديات الأكراد المنتخبين جنوب شرقي تركيا.
استندت تركيا في عملياتها في عفرين بشكل واضح إلى تجاربها الداخلية على صعيد الحملات العسكرية والسياسات القمعية ضد مواطنيها الأكراد
ورغم ارتكاب تركيا عدداً قليلاً من الانتهاكات الفردية لحقوق السكن والأرض والملكية في عفرين بشكل مباشر منذ انتهاء عملية غصن الزيتون، إلّا أن مكانتها الفعلية كقوة احتلال تحمّلها مسؤولية الانتهاكات التي ترتكبها الفصائل السورية الموالية لها، وبوصفها قوة دولية تدّعي أن وجودها في عفرين قانوني بموجب ميثاق الأمم المتحدة، فهي تفشل بشكل واضح في أداء مسؤوليتها المتمثلة بالحفاظ على النظام ومنع انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية. وقد أفادت التقارير بأن تركيا تمنح شركاءها السوريين “سلطة مفتوحة”، و”تغض الطرف” عن انتهاكاتهم، بما فيها تلك المتعلقة بالسكن والأرض والملكية، وتبدو الحجج القائلة بأن تركيا عاجزة عن ضبط الأوضاع في عفرين مجرد حجج واهية، بالنظر إلى أن تركيا تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي.
كانت تركيا انتقائية في تأديب الفصائل التي تعمل بتوجيهها فيما يتعلق بانتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية. فعلى سبيل المثال، أفاد العديد منهم بأن شكاويهم التي رفعوها إلى الوالي بشأن سلوك الفصائل المختلفة لم تلق أي رد، وقد أكد على ذلك عضو في أحد المجالس المحلية حاول سابقاً التواصل مع الوالي دون جدوى. وعلى النقيض من ذلك، أكد أولئك الأشخاص على استجابة الأتراك بسرعة حين يتعلق الأمر بوجود شكاوى من طرف الكتائب التركمانية -المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتركيا- ضد فصيل مزعج.
انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية، كما هو الحال جنوبي شرق تركيا، تمثل ركيزة مهمة للاستراتيجية التركية التي بدأت مع انطلاق عملية غصن الزيتون في عفرين. والحقيقة أن وصول أعداد كبيرة من النازحين داخلياً من العرب لاحتلال منازل الأكراد، الذين يمثلون الآن الأغلبية الديمغرافية في بعض المواقع، ما كان ليحدث دون تسهيلات من نقاط التفتيش التي يسيطر عليها الجيش التركي.
هناك أوجه شبه واضحة بين انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية في عفرين، والقمع الذي تمارسه تركيا منذ عقود ضد مواطنيها الأكراد، بما في ذلك عمليات إخلاء السكان لتغيير التركيبة السكانية وتعزيز سيطرتها. وقد خلقت سياسات التهجير الجماعي التي تنتهجها تركيا (بينها شن الغارات الجوية أثناء عملية غصن الزيتون)، ومنع عودة النازحين (وما رافق ذلك من تجاهل لممارسات الترهيب التي تقوم بها الفصائل السورية)، بيئة مواتية لانتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية على يد الفصائل السورية الموالية لتركيا. بالإضافة إلى ذلك، فرضت الحكومة السورية قبل وقوع المنازعات قيوداً على حقوق الأكراد في السكن والأرض والملكية في مناطق عفرين الحدودية، مما مهد الطريق أمام الانتهاكات التي ارتُكبت في إطار عملية غصن الزيتون. ومما يثير الحيرة أن مشروع “الحزام العربي” الذي أقرّته الحكومة السورية لعزل الأكراد عن أقرانهم في تركيا يبدو أنه قد تم توسيعه تحت رعاية الدولة التركية والفصائل السورية الموالية لها، الذين يعارضون الحكومة السورية.
خلاصة
تلخص الدراسة إلى تقديم التوصيات التالية إلى المجتمع الدولي:
• تحميل تركيا المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية في عفرين.
• الدعوة لإنشاء هياكل مدنية تمثيلية وتمكينها، تكون ذات سلطة على الفصائل المسلحة المختلفة، لتنظيم قضايا السكن والأرض والملكية في عفرين.
• تعزيز التماسك الاجتماعي في عفرين بين السكان المحليين والنازحين داخلياً، عن طريق دعم مشاركة المدنيين في حل النزاعات المتعلقة بالسكن والأرض والملكية. وينبغي التفكير في كيفية تعويض الذين فقدوا منازلهم وأراضيهم وممتلكاتهم.
• ينبغي على الأمم المتحدة أن ترصد شروط العودة الطوعية للنازحين داخلياً من وإلى عفرين، وضمان استمرار أعمال الإغاثة للنازحين في سوريا.
• دعم الآليات التي من شأنها إعادة تفعيل عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني.
• الاستمرار في بذل جهود المناصرة لتسهيل وصول البحوث الدولية وجماعات حقوق الإنسان ومجموعات الرصد الأممية لإجراء عمل ميداني لتقصي الحقائق وتوثيق الأوضاع في عفرين.
• يجب على الدول الغربية مراجعة القوانين المتعلقة بالدعم العسكري والمادي لتركيا، وضمان عدم استخدام تركيا للمساعدات الخارجية والصادرات ضد المدنيين سواء على أراضيها أو داخل سورية.
• ينبغي على دول الاتحاد الأوروبي ضمان عدم الاستحواذ على زيت الزيتون المُنتج في عفرين وبيعه في الأسواق الأوروبية على أنه من إنتاج تركيا.
• الدعوة إلى الإفراج عن المعتقلين بسبب معارضتهم لعملية غصن الزيتون.
للاطلاع على البحث كاملا يمكن مراجعة النص الأصلي في نسخة الـ PDF