عفرين بوست- خاص
تسيطر دولة الاحتلال التركي منذ عام 2018 على الدورة الاقتصادية في الشمال السوري المحتلّ بشكلٍ كامل، ومن ضمنها عفرين وإدلب الغنية بالخيرات الزراعية والمواد الأولية؛ فهل ستستغني تركيا عن هذه البقعة الجغرافية التي تشكل سوقاً لمنتجاتها ومصدراً خصباً للكثير من المنتوجات والمواد التي تشكل رافداً للاقتصاد التركي، مقابل التطبيع مع نظام الأسد، أما أنّ لتركيا غايات أكبر؟
هذه التساؤلات لا بد منها، بل هي مهمة جداً في مسار تطبيع العلاقات التي يتم التحضير لها بين النظامين التركي والسوري، إذ تعاني تركيا من أزمة اقتصادية حقيقية، ويشكل الشمال السوري رغم صغره مقارنة بالمساحة الجغرافية لتركيا مورداً اقتصادياً هاماً، عبر التبادل التجاري المباشر الذي تخطى عتبة /700/ مليون دولار أمريكي سنوياً، لكن الحصة الأكبر بلا شك هي للصادرات التركية إلى الشمال.
كيف بدأت تركيا الاستثمار؟
بعد احتلال تركيا لمقاطعة عفرين، وتمكّنها من الوصل الجغرافي بين إدلب وجرابلس وإعزاز عبر عفرين، بدأت بإدخال الشركات التركية والمنظمات المرتبطة بحكومتها، الهدف هنا متعدد الأغراض وفقٍ للواقع الحالي، الأول هو دعم الرؤى والخطط السياسية التركية في المنطقة عن طريق الميليشيات الموالية لها والشركات التركية بالسيطرة التامة على مرافق الحياة الأساسية من كهرباء ومياه وتجارة بينية والتحكم في القطاع الزراعي الذي يشكل شريان الحياة بالنسبة لأبناء المنطقة سواء في عفرين أو باقي المناطق السورية المحتلة.
البداية كانت بإدخال شركات البناء وربط عفرين المحتلّة بولاية هاتاي التركية، وتعيين منسق تركي يشرف على كافة الأمور الصغيرة والكبيرة في المنطقة؛ اقتصادياً باتت شركة الكهرباء المدعومة من الحكومة التركية تعمل في الأراضي السورية تحت اسم “شركة خاصة” وترفد هذه الشركة خزينة الدولة التركية بملايين الدولارات سنوياً عبر استثمار هذا القطاع الهام؛ في الجانب الآخر أدخلت تركيا شركة متخصصة بالمياه لإدارة سد ميدانكي ومحطة تصفية المياه في قرية شرّا التي تضخ مياه الشرب لمدينتي عفرين وأعزاز؛ المحطة التي تمّ تأسيسها من قبل الحكومة السورية مع الانتهاء من مشروع سد ميدانكي (سد 17 تشرين)، وبهذا سيطرت تركيا عبر شركاتها على قطاعي الكهرباء والمياه في كامل المناطق المحتلّة، إضافة إلى باقي القطاعات التجارية والخدمية.
ثانيا حاولت تركيا السيطرة على القطاع المالي والتحويلات المصرفية عبر شركة البريد التركية PTT، والتي تعمل كمصرف مصغر غير رسمي، وتقدم هذه الشركة بعنوانها البراق خدمات مصرفية، كصرف رواتب الموظفين التابعين للمجالس المنشئة من قبل سلطات الاحتلال التركي، إضافة لتقديم خدمة فتح الحسابات المصرفية للأشخاص والشركات وشحن الأوراق بين تركيا والشمال السوري، ومنه إلى باقي دول العالم، وصرف العملات.
لكن حقيقة شركة البريد التركي وإدخاله للشمال السوري، هو إجبار التجار على فتح حسابات خاصة، بنقل المواد الزراعية عبر تركيا، والتحكم بالوارد المالي الناتج عن التبادل التجاري، إذ يعتبر الحساب البنكي في مؤسسة البريد شرطاً أساسياً لتسلم ثمن موسم القمح والشعير بعد تسويقه للداخل التركي، إضافة للتحكم والإشراف على المداخيل المالية للمنظمات الإنسانية العاملة في الشمال المحتل، وقد أجبرت السلطات التركية المنظمات العاملة في ريف حلب، المحلية والأجنبية، على تحويل الأموال للداخل السوري عبر أفرع البريد الموجودة في سوريا، وهذا أيضاً له أهداف سياسية واقتصادية.
وتتوزع مراكز البريد التركية في 11 مدينة سورية هي: جرابلس، الباب، عفرين، أعزاز، الراعي، مارع، بزاعة، قباسين، جندريس، تل أبيض، رأس العين.
مَنْ المستفيد؟
تجارياً، فتحت تركيا الباب أمام بعض التجار لتصدير المنتجات السورية (من مناطق نفوذها) إلى العالم عبر خط الترانزيت، لكن بالمقابل حصدت تركيا الكثير من الفوائد عبر الرسوم المفروضة على تلك السلع أولاً والتي تمثلت بالمواد الزراعية الأولية، إضافة لتحديد الأصناف المسموحة بتصديرها إلى الخارج ثانياً وتخصيص المواد الأخرى للداخل التركي حصراً وعلى رأسها القمح والشعير.
بحسب تاجر سوري من إدلب، تتمثل المواد المصدرة من الشمال المحتل بالمواد الزراعية، من محاصيل عطرية وبعض الأعشاب الطبية والحجر السوري، إضافة لزيت الزيتون الذي يتم سرقته وتعبئته في الداخل التركي على أنه منتج تركي، وذلك لأن الشركات المخصصة بتصديرها إلى الخارج تكون مرخصة بالداخل التركي ولها أفرع في عفرين أو إدلب.
في المقابل تبلغ حجم الواردات من تركيا إلى الشمال السوري نسبة 92 % من التبادل التجاري، والتي تشمل المواد الغذائية ومواد البناء والعدة الصناعية وغيرها من المستلزمات اليومية، وبهذا يكون الشمال السوري الذي يعاني من ضعف القطاع الصناعي وزيادة تكاليف الزراعة نتيجة غلاء المستلزمات الأساسية والتي تأتي غالبيتها العظمى من تركيا، ساحة مفتوحة للمنتجات التركية، وتخضع بالكامل للتحكم من قبل الحكومة التركية.
وفق وكالة “الأناضول” التركية بلغ حجم صادرات تركيا إلى مناطق ريفي حلب الشمالي والشمالي الشرقي خلال الأشهر العشر الأولى من العام 2023، /560/ مليون دولار أمريكي،40% من هذه الصادرات دخلت سوريا من معبر “قرقميش” المقابل لمعبر جرابلس شمال شرقي حلب.
في حين قدّرت سلطات الأمر الواقع في الشمال السوري المحتل حجم التبادل التجاري بين تركيا ومناطق شمال غربي سوريا خلال النصف الأول من عام 2022 بنحو 600 مليون دولار أمريكي، عن طريق المعابر الخاضعة لسيطرتها (6 معابر حدودية).
ولا تشمل الأرقام معبر باب الهوى الحدودي شمالي إدلب، وفي حال دخل ضمن حسابات التبادل التجاري مع تركيا، فستزيد قيمة التبادل بين الجانبين، لتصل إلى أكثر من 700 مليون دولار خلال الأشهر الستة الأولى فقط.
إذ بلغ متوسط التبادل التجاري الإجمالي بين تركيا ومناطق المعارضة بين عامي 2016 – 2021 بما يقارب 2 مليار دولار بمتوسط رصيد 1.74 مليار دولار أمريكي لمصلحة الصادرات التركية.
بالعودة إلى بيانات التبادل التجاري بين تركيا وسوريا بعد ترميم العلاقة بين البلدين عام 1999، إذ وصل التبادل التجاري إلى 400 مليون دولار عام 2004، وبعد عقد اتفاقيات تجارية بين حكومتي البلدين، ارتفع التبادل التجاري إلى 2 مليار و200 مليون دولار في عام 2010 وهي ذروة تحسّن العلاقات بين البلدين، لكن كانت الواردات التركية تستحوذ على نسبة 70 % من التبادل التجاري، أي ان السوق السورية رغم توفر الصناعة والزراعة والتطور الصناعي تم غزوها بالمنتجات التركية آنذاك أيضاً.
تطبيع أنقرة-دمشق اقتصادياً!
بمقارنة بسيطة بين حجم التبادل التجاري والاستفادة التركية من الوضع الراهن في سوريا، يتبين أن تركيا مستفيدة بكل الأحوال، اليوم تعتبر مناطق الشمال السوري المحتلّ جزء من تركيا، وتستنزف ثرواتها بشكلٍ غير مدروس، مما يهدد مستقبل المنطقة في المدى المنظور، وحال تم التطبيع ستتحول مناطق سيطرة النظام السوري التي تعاني من نقص المواد الغذائية والمواد اللوجستية إلى ساحة غنية للمنتجات التركية، وبهذا سيتضاعف التبادل التجاري بين البلدين أضعاف عدة، لكن ثمة سؤال آخر هام، ما هي العوامل التي ستؤثر على التطبيع من الناحية الاقتصادية؟
بعد الأزمة السورية تحولت سوريا إلى ساحة دولية، وتدخلت عدة دول إقليمية في الشأن السوري، من ضمنها تركيا وإيران، وهاتين الدولتين في تنافس مستمرّ على الساحة السورية والعراقية، ترى إيران في تركيا منافساً من الناحية الاقتصادية، سوريا هي جزء من ساحة المنافسة الاقتصادية الشرسة بين الدولتين. الموقع الجغرافي لتركيا، يمنحها ميزة عن إيران، حيث ستكون الصادرات التركية ومنتجاتها المتنوعة أساسًا للوصول إلى الأسواق السورية، وستكون تلك الزيادة على حساب حصة المنتجات الإيرانية، وهذا يعني خسارتها للأسواق السورية لصالح تركيا، وهو ما تسعى طهران لمنعه.
ويرى الكاتب الصحفي “حسن الشاغل” بمقال رأي أن إيران ستبذل قصارى جهدها لمنع تطبيع النظام السوري للعلاقات السياسية مع تركيا في سبيل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية.
ويتوقع الشاغل “أن النظام السوري في تطبيع العلاقات السياسية مع تركيا سيعمل على احتكار التجارة مع تركيا عبر شركات تكون واجهة له. والأهم من ذلك، سوف يستخدم التبادل التجاري مع تركيا كجسر للالتفاف على العقوبات الدولية من خلال التعامل مع شركات تركية أو فتح شركات في تركيا تستورد ما يحتاجه النظام من الأسواق الدولية ليتم تصديره إلى مناطق سيطرته”.
السؤال الأهم
هل سيستفيد السوريون من التطبيع اقتصادياً؟ …. للوهلة الأولى، أي تطبيع سياسي يحدّ من التصعيد العسكري ويفتح الطرقات والمعابر بين مختلف المناطق السورية، سيكون في الصالح العام بمختلف مجالاته، ولكن! كيف وبأي درجة وما هي المدة الزمنية اللازمة لذلك، أمور متعلقة بالعديد من العوامل.
وما هو مؤكد أنّ النظامين السياسيين الحاكمين في أنقرة ودمشق مستفيدين بالدرجة الأولى، لعلّ حكومة العدالة والتنمية برئاسة أردوغان مستعجلة في هذا التطبيع، لأجل معالجة أزمتها الاقتصادية وترميم قاعدتها الشعبية تحسباً للانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، بينما الجانب السوري يتحرك بخطوات هادئة، وخاضع للعديد من الشروط والتجاذبات.
يبقى الشعب السوري ساعياً للحلّ السياسي لأزمته المستفحلة، وتالياً لتحسين الأوضاع الاقتصادية وتأمين لقمة العيش، بعد وقف الحروب على أراضيه، وفك الحصار عنه، وتبادل المنتوجات وتدوير عجلة الاقتصاد بين مختلف المناطق السورية، بما يدرّ على أبنائه من مداخيل وأموال.