عفرين بوست – متابعة
تحولت منطقة عفرين إلى دليل بشري لانحطاط الأخلاق ووحشية المحتل خلال سنوات من الاحتلال التركي وفصائل المعارضة السورية. فيها يتقاتل مسلحون مستوطنون فيما بينهم على منازل أهل البلد.
قبل أيام حدث في عفرين، مجدداً، ما تعجز عن صياغته الروايات السوداوية وفق شهادات عديدة من أشخاص على صلة بالحدث، وهو نوع متكرر من الأحداث، إذ استولى قائد فصيل مسلح محتل يدعى أسمر أبو العز على منزل السيدة العفرينية ملَك خليل إيبو (63 عاماً). حاولت ملك مراراً التمسك بمنزلها وأرض عائلتها دون جدوى. فالمستقوي بالاحتلال علم أن للسيدة أقرباء، وأمرها أن تقيم عندهم، معتبراً من تلقاء نفسه أن ملك إيبو ليست بحاجة إلى منزلها! إنه حقاً نوع من استعادة أخلاق تجار العبيد. وعفرين أصبحت، بالاحتلال والتواطؤ مع هذا الاحتلال، أرضاً مستباحة يتقاسمها قواد الجند بحضور أهلها كما فعلوا في سواد العراق قبل 14 قرناً حين عصوا- أول الأمر- أوامر أميرهم عمر بن الخطاب.
والحق أن نهاية هذه الفاجعة كشفت عن طبيعة إسلامها وإسلامه، أخلاقها وأخلاقه، قضيتها وقضيته، إيمانها ونفاقه. فحين شعرت ملَك بدنو الأجل، أوصت أن يُحمل نعشها إلى منزلها المغتصب قبل دفنها. فظهر المشهد المفجع الذي نشر: صورة لنعش ملك في منزلها، وفي الزاوية يراقب المدعو أسمر المشهد. ومن المرجح أنه مؤمن باستحقاقه أجراً وثواباً في الآخرة على تساهله في تحقيق وصية امرأة مسلمة ميتة بأن تشيّع من منزلها.
الملفت في فاجعة عفرين المستمرة أن لا صوت يغرد خارج السرب في معسكر «الفاتحين» وفقهائهم المأجورين للسلطان. فـ«أخلاق الغنيمة» باتت كأسنان المشط لدى الجميع، ولا يوجد في هذا القوم صوت الإمام أحمد بن حنبل الذي رأى وجوب بيع المنازل في بغداد «بيع أنقاض» دون الأرض لأن «بغداد دار غصب» ودار احتلال أُخِذَت دون وجه حق. وبعض علماء ذاك الزمان كرهوا الصلاة فيها وغادروها غير آسفين.
من أين جاء أصحاب هذه الأخلاق؟
استغرقت المعارضة السورية قرابة عامين حتى تحولت إلى طرف يحكم مدناً أو أجزاء واسعة ضمن النتائج المبكرة للثورة الشعبية ضد النظام السوري. ومنذ ذلك الحين، لم تفرز تجربتها في الحكم والإدارة سوى كوارث على المجتمعات المحكومة، بل إنها تسببت في تآكل سريع للقشرة التقدمية في المجتمعات المحلية.
ولا يحتاج الأمر إلى حصافة استثنائية لرؤية التشابه بين الوجه السائد من هذه «المعارضة الحاكمة» وبين تنظيم داعش، في استعادة أسوأ ما في التاريخ من تمثلات وحشية، مع فارق لا يمكن تغييبه في سياق أي تحليل متعلق بتجارب الحكم القصيرة في الفوضى السورية، وهو أن «داعش» أراد مجتمعات مهزومة ومستسلمة، بلا قادة، عبر العنف والإرهاب. ففي النهاية، يبقى المجتمع جوهر أي حكم وسلطة عبر التاريخ باستثناء سلطة «الجاهلية السورية» والمتمثلة تحديداً- في الشق العسكري- بالفصائل المسلحة التي تنضوي حالياً تحت مظلة وهمية اسمها «الجيش الوطني السوري»، ومن قادته ورموزه خاطف الرهائن في عفرين، أبو عمشة، وقاتل هفرين خلف، أبو شقرة، ومسلحون ما زالوا إلى اليوم يسيرون حفاة التزاماً بنذور وثنية أن لا ينتعلوا حذاء قبل سقوط بشار الأسد. هذه هي مملكة الجاهلية السورية الحديثة، لها خصوصيتها المتخلفة مقارنة بكافة السلطات القائمة على خارطة هذه البلاد. فهو حكم يسير وفق نظام الهرم المقلوب، أي يحكم فيها أسوأ من فيها. ولا يكاد يكون هناك استثناء في حزب الجاهلية القبلية هذا، سواء أولئك العائدون إلى النظام وإيران (الهفل مثالاً) أو الباقون تحت العباءة التركية. وفي عنفها ورؤيتها، لا يغيب الحجاج بن يوسف عن روحها. ومن كان الحجّاج دليله لن ينتظر طويلاً حتى يرى صدام حسين رمزاً لهؤلاء. فالأخير أيضاً أحد الأمثلة الخائبة للإلهام في هذا الزمن. لذلك عدّه الزعيم الكردي الأسير عبدالله أوجلان في إحدى لقاءاته مع محامييه عام 2007 بأنه «أب لحقيقة السياسة والواقع في الشرق الأوسط».
رغم التشابهات في جوهر الحكم بين النظام وهذه المعارضة القروسطية، إلا أن ما تتغافل عنه نخب المعارضة – على استحياء – أن عناصر الاستمرارية متوفرة لدى النظام أكثر ما لدى هؤلاء المسلحين القادمين من أسفل الهرم الأخلاقي، ذلك أن هناك خطوطاً حمراء لم يتجاوزها النظام حتى حين قربت ساعة سقوطه مطلع عام 2015، ألا وهو قوة الادعاء لديه أنه ليس نظاماً فئوياً، والاحتفاظ بمظاهر اجتماعية تدعم ادعاءاته. فمناطق النظام هي الأكثر تنوعاً اجتماعياً بعد مناطق الإدارة الذاتية. بينما في مناطق المعارضة، لا يوجد سوى لون واحد. ويتم التعامل مع المختلفين قومياً ودينياً وحزبياً كموالي لا حقوق وأملاك لهم، وبمثابة مجتمعات غير عربية تدفع الجزية رغم إسلامها – كما في عهد بني أمية – ولم يتم الإبقاء سوى على بضعة مسيحيين على دينهم وكسروا صلبان كنائسهم ونواقيسها، وتم إكراه دروز إدلب على الإسلام تحت سلطة جبهة النصرة المتلونة إلى «هيئة تحرير الشام» وتحطيم حتى قبور الإيزيدية الكرد وإكراههم على تبديل دينهم في عفرين. أما الكرد تحت سلطة هذه الأخلاق، فهم كشعب سواد العراق والجبل (كردستان) في عهد بني أمية، يدفعون الجزية حتى مع من أسلم منهم.
إذاً، تحكم المعارضة وفق نموذج الهرم المقلوب، وهي غير قادرة على تصحيح هذا الوضع. فالمسألة بنيوية متجذرة تسللت إلى عقول قادة الحراك الشعبي منذ الأيام الأولى حين أصبحت غايتهم جذب الناس للمشاركة بأي ثمن، ومقابل تبني شعارات الفئة الأكثر سطحية وتطرفاً والتي لم تهيمن على مجتمع إلا ودمّرته عبر التاريخ.
لا روم في عفرين.. فكيف ظهرت «أجنادين فلسطين»؟
إلى جانب ملك إيبو و«الجاهلية السورية» المشيدة على مزيج من التوجه الإخواني الإرهابي وحزب البعث العراقي، إلى أي مدى يبدو المشهد كاريكاتورياً حين تساهم جمعية إسلامية فلسطينية في بناء مستوطنات في عفرين المحتلة؟ إحدى المستوطنات تحمل اسم “أجنادين فلسطين” تكريماً لذكرى معركتين باسم أجنادين عامي 13 و 15 هـ، بين العرب المسلمين والعرب المسيحيين، أو كما يطيب لمؤرخي المعسكر المنتصر تسمية أطرافها: بين المسلمين والروم.
حتى إذا سلمنا بالقراءة المتخلفة للتاريخ كتلك التي تسوقها الجمعية الفلسطينية لتبرير الاستيطان، لكن لا روم في عفرين فما الذي جاء بأجنادين إليها. ولا ذكرى تربطها بفتوحات المسلمين المبكرة. رغم ذلك، ما زالت مشاريع الجمعيات الفلسطينية في عفرين متواصلة، ولا يوقفها ما يجري في غزة من تدمير شامل للبشر والحجر.
من جهة أخرى، لا يستبعد أن يكون هناك «تاجر سياسي» زج بأسماء جمعيات فلسطينية في مشاريع الاستيطان في عفرين. وهو تاجر له تاريخ في صناعة «دراما القائد المسلم» مثل مغادرة منتدى دافوس احتجاجاً على كلام الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز، مع الاستمرار في التصدير والتوريد بالنسبة للبضائع والأسلحة بين الطرفين.
المصدر : حسين جمو
«لا رُوم في عفرين».. ملَك إيبو أمام جيش الجاهلية السورية