آيا صوفيا هي نموذج معركة دونكيشوتية قادها أردوغان عبر الشعارات الرنانة، وتولى عبيده الاحتفال بها على أنها نصرٌ كبيرٌ، رغم أن تركيا لا تحتاج عملياً مسجداً إضافياً وهي التي تحوي أكثر من 90 ألف مسجد، ومدينة إسطنبول تضم نحو 3600 مسجد، ولكن المطلوب التوظيف السياسي والإعلامي للمسألة لتأكيد ريادة أنقرة الإسلامية، وليتولى تنظيم الإخوان المسلمين التطبيل والاحتفال طويلاً بالمناسبة.
فقد أظهر مقطع مصور عرضاً عسكرياً قامت به ميليشيا “فرقة السلطان سليمان شاه” المعروف باسم “العمشات” في معسكر “سي بلال” غرب العاصمة الليبيّة طرابلس، احتفالاً بإعلان تحويل مسجد آيا صوفيا من متحف إلى مسجد.
وفي الواقع الاحتفال، يتجاوز المعنى الديني ليكون مناسبة لتجديد ميليشيا العمشات الولاء لأنقرة، وأكّدت معنى التبعية والارتزاق، بعدما بلغ عدد المرتزقة السوريين في ليبيا 17300 مرتزق\قاتل مأجور.
فيما لا ينطبق حديث فتح القسطنطينية الذي يتم تداوله “لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش” على الواقع، لأن ما حدث كان غزواً ولم يكن فتحاً، فالسلطانُ دكُّ أسوارَ المدينة الحصينة وحاصرها ودخلها محتلاً.
وتذكرُ مراجع تاريخيّة رصينةٌ أنّ الجيشَ العثمانيّ ارتكب مجازر بالمدينة واغتصب النساء واسترقَّ الأطفال، ولكن أنقرة تصرُّ على ترويجِ توصيفٍ أسطوريّ للجيشِ الذي احتل القسطنطينيّة وإسباغِ هالاتِ القداسة على السلطان العثمانيّ ووصفهِ بالفاتح، الذي بشّر به النبيّ، وأول من قام بتأويل حديث الرسول عن محمد الفاتح وفتح القسطنطينية هو محمد شمس الدين بن حمزة المعروف باسم شيخ الإسلام آق شمس الدين، والقصة مجردُ تأوّلٌ، والمقصود غير ذلك تماماً.
حيث يتم العمل على تجديد التاريخ العثماني بناءً على جملة من الأساطير وأحدها الترويج والتسويقِ أنّ سليمان شاه بن قايا ألب هو جدُ مؤسسِ الدولة العثمانيّة عثمان الأول بن أرطغرل بن سليمان شاه، وأنّه أحدُ الزعماءِ الأتراك، عاش في الفترة ما بين عامي 1178-1236.
لكن المصادر العثمانيّة التي كُتبت بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، مثل تاريخ أحمدي، وتاريخ أنوري، وتاريخ سلجوق نامه ليازجي أوغلو، وتاريخ شكر الله، وتاريخ إدريس البدليسي وغيرها، نسبوا عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانيّة كما يلي: “عثمان بن أرطغرل بن كندز ألب بن قايا ألب بن كوك ألب بن صارقوق ألب بن قايي ألب”.
ويشير ذلك النسبُ إلى أنَّ “كندز ألب” هو الجدُ الحقيقيّ لآل عثمان، وليس سليمان شاه، وتؤيد ذلك المسكوكات المكتشفة في العصرِ الحديث والمنسوبة إلى عثمان الأول، إذ كُتب فوقها عثمان بن كندز ألب. ويبدو سليمان شاه، حكايةً لُفقت في عصرٍ متأخرٍ لمنحِ العثمانيّين نسباً ملكيّاً أفضل من النسبِ البدويّ المجهول الذي كان المؤرخون الأوائل في البلاط العثمانيّ على علمٍ به، ومتفقين عليه.
وقد أوردَ المؤرخُ التركيّ أحمد جودت باشا بالقرن الـ19 في كتابه عن تاريخ الدولة العثمانيّة، والمعروف بـ “تاريخ جودت”، روايةً حول تأسيس دولة آل عثمان، فقال: “إنّ الأمير عثمان الأول، مؤسسَ الدولةِ العثمانيّة، هو ابن أرطغرل بن سليمان شاه”، وسليمان ذاك كان رئيساً لقبيلة قايي، التي دخلت مع غيرها إلى الأناضول عقب انتصار السلطان ألب أرسلان السلجوقيّ على البيزنطيين في معركة ملاذ كرد الشهيرة عام 1071، وقد مات سليمان غرقاً وهو يحاول عبور نهر الفرات قرب قلعة جعبر شمال سوريا، ودفن هناك”.
وقد حازت رواية سليمان شاه الواردةُ في كتاب “تاريخ جودت”، قبولَ السلطان عبد الحميد الثاني والدوائر العثمانيّة الرسمية، فسعى عبد الحميد، لإيجادِ شرعيّة لوجودِ دولته بالشام مقابل القوى الأوروبيّة، فبحث عن قبر سليمان المزعوم شمال سوريا لبناء ضريح فوقه، فوجد ضالته في قبرٍ تركيّ في قلعة جعبر على ضفة الفرات الغربيّة قيل إنّها ضريح سليمان شاه، فأمر ببناء ضريح فوق القبر، وعُرف من بعدها باسم “تورك مزار” أي الضريح التركيّ.
وقد كتب المؤرّخ التركيّ يلماز أوزتونا في الجزء الأول من كتابه “تاريخ الدولة العثمانيّة”: “إن قصة جعبر ما زالت قصة لا يمكن القطع بصحتها ومن المحتمل أن تكون برمتها قصة ملفقة”.