عفرين بوست- تقارير
اكتسبت ثمار الرمان المنتجة في عفرين شهرة واسعة في الداخل السوري وبعض دول الجوار مثل العراق وتركيا، وازدهرت زراعة شجرة الرمان في عفرين بين أعوام 1990-2016، لتغدو من الأشجار المثمرة الرئيسية التي تدر على المزارعين وفرة الإنتاج والربح، إلا أن الحال لم يدم طويلاً وباتت هذه الزراعة اليوم عرضت للاندثار والتراجع في عفرين المحتلة لأسباب عدة من ضمنها السرقات وقطع الأشجار من قبل المسلّحين والمستوطنين.
“تعود زارعة الرمّان في منطقة عفرين إلى العصور القديمة، وتثبت الآثار المكتشفة وجود معاصر قديمة جداً خاصة بالرمان والعنب، حيث أن عفرين كانت موطناً أصلياً له”
أهمية الرمان ومساحاتها
عام تلو الآخر، مع الاحتلال التركي والميليشيات الموالية له، تتزايد مآسي أهالي عفرين وقلة حيلتهم، وتتغير معها الطبيعة الزراعية والبيئية للمنطقة بفعل الانتهاكات المتعددة التي يقوم بها المسلحون التابعون لتركيا والمستوطنون أيضاً، من قطع الغابات والأشجار وحرقها والرعي الجائر لقطعان المواشي والسرقات التي تطال مختلف المواسم، ناهيك عن الإتاوات الواسعة والكبيرة المفروضة على الأهالي، حتى أثرت هذه الحالة العامة على تراث المنطقة المادي والمعنوي ودفع الأهالي للتفكير بتغيير أنماط حياتهم وأعمالهم، لدرجة باتوا يفكرون بقطع أشجارهم أيضاً، نعم هذه حقيقة قائمة في عفرين وإليك بعضٍ تفاصيلها.
تعود زارعة الرمان في منطقة عفرين إلى العصور القديمة، وتثبت الآثار المكتشفة وجود معاصر قديمة جداً خاصة بالرمان والعنب، حيث أن عفرين كانت موطناً أصلياً للرمان، إذ تواجد فيها أصناف بشكل بري، لكنها اختفت قبل عقود نتيجة الجفاف وتوسع المناطق الحراجية.
تركز زراعة الرمان في المناطق المروية نتيجة احتياجات شجرته إلى الري، لذا توزعت بساتينها بشكل كبير في القرى المتاخمة لنهر عفرين، حيث وفرة المياه والمناخ الملائم لازدهار الشجرة والحصول على ثمار ذات جودة عالية، واشتهر بعض قرى عفرين برمانها الكبير والحلو ذو اللون الزهري المائل للاصفرار، أشهرها بلدة “باسوطة” التي يتميز رمّانها بجودته العالية وكبر حجمه، لدرجة تم تخصيص مهرجان خاص تحت اسم “مهرجان الرمان والكاكي” كان يقام بشكل سنوي في عفرين كل خريف، واستمرت الإدارة الذاتية في إقامة هذا المهرجان وتكريم المزارعين المتميزين لغاية عام 2017.
متى يضطر المزارع لاقتلاع الرمّان
علي جمو مزارع من قرية ترندة (5كم جنوب عفرين) كان يملك 3000 شجرة رمان قبيل الاحتلال التركي لعفرين، والذي بدأ بزراعتها عام 2011 وحصل على الإنتاج بعد أربع سنوات من الخدمة، يقول “الرمان شجرة اقتصادية وتدر ربحاً معقولاً للمزارع إذ ما كانت أسواق التصريف متوفرة وبأسعار مقبولة” وكان جمو يحقق توازناً بين المصاريف والمردود مع نسبة جيدة من الربح تصل في بعض السنوات إلى 60%، قبل سنتين عمد جمو إلى اقتلاع 2500 شجرة والإبقاء على 500 منها فقط.
الأسباب التي دفعت علي جمو لاقتلاع أشجاره تعددت بين سرقة الموسم وتعمد المستوطنين لإتلاف كميات من الثمار الغير الناضجة قبل موسم الجني، إضافة للإتاوات التي تفرض عليهم، وهنا نتحدث عن فرض الإتاوات على بساتين الأشجار المثمرة بنسبة أكبر من الأرضي السليخ المخصصة لزراعة المحاصيل، والسبب الآخر هو ارتفاع تكاليف الإنتاج وتدني الأسعار نتيجة توقف تصدير الرمان إلى العراق وانحسار تجارته بين الشمال المحتل وتركيا، وهنا يتحكم التجار بين البلدين بالأسعار وفقٍ مصالحهم بتواطؤٍ مع سلطات الاحتلال التركي.
إلى جانب هذا خسر جمو قرابة 80 شجرة رمان عام 2022 نتيجة اقتلاع المستوطنين في فصل الشتاء أجزاء منها بغرض بيع خشبها، ويؤكد جمو أن هدف إبقائه على 500 شجيرة حالياً ليس للاستفادة المادية منها بل حبه للأشجار ولا يتوقع ان يستمر بالاعتناء بها طويلاً في حال استمرار هذا الحال.
استثمر جمو أرضه في زراعة المحاصيل الموسمية، الحمص والفول وغيرهما من المحاصيل التي تقل نسبة السرقات فيها، ويضطر لإبقاء الأراضي بور بدون زراعة في موسم الصيف على غير عادة أهالي عفرين، والسبب ارتفاع تكاليف مستلزمات الزراعة وفرض الإتاوات على كل موسم زراعي على حدى.
وفقاً لإحصائيات مديرية الزراعة في عفرين عام 2011 بلغ عدد أشجار الرمان 730 ألف توزعت على مساحة 18000 دنم من الأراضي الزراعية الخصبة، وخلال أعوام 2013-2018 تمت زراعة مساحات إضافية بالرمان قدرت بـ 5000 دنم، وتتميز شجيرة الرمان بمحصولها الوفير وتكاليف الإنتاج المتوسطة مقارنة بباقي أشجار الفاكهة.
100 دولار عن كل دونم
يعتني أبو احمد بـ 4 هكتارات من الأراضي الخاصة بأعمامه وعائلته، ويضطر للاعتناء بأشجار الرمان الخاصة بعمه المقيم خارج سوريا، خوفاً من استيلاء الميليشيات على الأرض وتسليمها للمستوطنين، وكل سنة يدفع لما يسمى باقتصادية ميليشيا الحمزات ما يصل إلى 20% من الإنتاج بصفتهم شركاء تحت بند الحماية وأسماء أخرى، ومع فرض هذه الميليشيات قرار يمنع بموجه نظام الوكالات هذا العام، أجبرت الميليشيا أبو أحمد وغيره من المزارعين إلى دفع بدل استئجار لمكتبها الاقتصادي بدلاً من نظام الشراكة.
يصل بدل الإيجار هذا بحسب وصل رسمي اطلعت عفرين بوست عليه (1200 دولار أمريكي عن 12 دونماً فقط عائدة لعمه، أي كل دونم مقابل 100 دولار لبساتين الأشجار المثمرة و50 دولار لكل دونم عن الأراضي السليخ).
“نحن أمام خيارين إما الاستمرار وتحمل الخسارة أو ترك الأراضي بوراً وهنا سيأتي المستوطنون ويستولون عليها”
خيارين.. الخسارة أو الاستيلاء
بطبيعة الحال يزيد بدل الإيجار هذا تكاليف الإنتاج السنوية، ناهيك عن السرقات وتكاليف الإنتاج الغالية الثمن من الأسمدة والمبيدات الزراعية وغيرها، وهذا يدفع أبو احمد وعمه للتفكير باقتلاع الأشجار والتوجه لزراعة المحاصيل فقط، وبالفعل يقول أبو أحمد “نفكر اليوم باقتلاع الاشجار القائمة نتيجة زيادة التكاليف وفرض إتاوات مرتفعة، وكل عام تزداد هذه الإتاوات، في السابق كانوا يجبروننا على دفع نسبة من الإنتاج بعد جني الموسم، لكن في الوقت الحالي يتم احتساب الإتاوة بموجب المساحة بغض النظر عن وفرة الموسم او عدمه، وهذا يضيف عبئاً كبيراً على المزارع، ونحن أمام خيارين إما الاستمرار وتحمل الخسارة أو ترك الأراضي بوراً وهنا سيأتي المستوطنون ويستولون عليها”.
يُزرع في المنطقة أصناف مختلفة من الرمان أهمها: “اللفان” و”الحلو” و”الحامض” و”العصفوري” أما “الصنف الفرنسي” فتم إدخاله للمنطقة بعد عام 2010 وانتشرت زراعته أيضاً.
“تحولت الجنة الصغيرة التي خصصتها لعائلتي إلى مصدر إزعاج واشمئزاز”
مؤلم
في حادثة أخرى تعتبر غريبة ومؤلمة بالنسبة لمزارع واظب الاعتناء بأشجار منذ عقدين من الزمن، إلا أنه وصل اليوم لاتخاذ قرار صعب وهو اقتلاع 300 شجيرة رمان رغم عنه، وهنا يسرد المزارع “ص.أ” قصته مع الأشجار التي زرعها برفقة أبنائه في ناحية جنديرس، ويقول “كنت أعتني بهذه الأشجار مثلما أعتني بأولادي، اقضي كل وقتي في بستاني، إلا أنني بت اليوم أكره المجيئ إلى البستان، فقد تحولت الجنة الصغيرة التي خصصتها لعائلتي إلى مصدر إزعاج واشمئزاز”.
حالة الكره التي تولدت لدى “ص.أ” لم تأتي بشكل مباشر، بل هي تراكمات خلال ست سنوات من الاحتلال أفعال أبناء المستوطنين القادمين إلى جنديرس، لا سيما أنه ثمة مخيم قريب من بستانه، إذ يعمدون إلى اقتلاع الثمار قبل نضوجها وإتلافها بشكلٍ متقصد، لدرجة أن نسبة 30% من الثمار تتلف من قبل المستوطنين، دون أن يستطيع المزارع تقديم شكوى أو منعهم من ذلك، خوفاً على حياته.
إلى جانب هذه السرقات التي تتم أثناء نضج الثمار، وهذا يدفع “ص” لجني محصوله مبكراً قبل هطول الأمطار التي تزيد من حجم الثمار ولونها، وهذا يسبب له خسارة في الوزن والسعر أيضاً، ولن نتحدث عن الإتاوات وغيرها من الانتهاكات التي سردناها سابقاً.
هنا يقول “ص.أ” “اقتلعت ٣٠٠ شجرة رمان رغماً عني، لكي أوقف أوجاع قلبي، عند رؤيتي أغصان الأشجار مكسورة والثمار في الأرض تالفة، كل يوم كنت أرى عشرات الثمار تالفة بشكل متقصد، عبر عضها ورميها على الأرض، حتى الحيوانات لا تفعل ذلك للأسف”، ويتابع بحسرة “هذه الأفعال استمرت لسنوات ولم تتوقف، لدرجة أن الأطفال باتوا يتقصدون ذلك أمام ناظري، دون أن أستطيع أو أتجرأ على توبيخهم أو منعهم، والسبب معروف لديكم ليس جبناً مني، بل لأننا تحت نير الاحتلال والقوة بيدهم”.
هذه نماذج بسيطة تمكن فريق عفرين بوست من رصدها، لكن ثمة العديد من القصص المؤلمة التي لم يتمكن أحد من رصدها وتوثيقها؛ استمرار الانتهاكات يدفع الأهالي لتغيير أنماط حياتهم ومصادر رزقهم، وبالتالي مع الزمن سيحل زراعات جديدة مكان البساتين التي اشتهرت عفرين بها منذ عقود.