نوفمبر 14. 2024

أخبار

خمس سنوات من الاحتلال التركي لعفرين.. كيف حدثت الجريمة؟

عفرين بوست ــ متابعة

كتب د. ثورو ريدكرو المحلل أمريكي في مجال النزاعات الدوليّة والضيف الدائم في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، تقريراً نشره مركز الدراسات الكرديّة في 7/4/2023، قال فيه “أصبحت نسبة الكرد في عفرين 30% فقط في حين كانت حتى بداية 2018 تصل إلى 96%، سبب ذلك التطهير العرقيّ العدوانيّ الذي تمارسه تركيا”.

مدينة عفرين الكرديّة، تُظهر حقد تركيا وعدوانيتها ضد الكرد

وذكر ثورو أنّ تعصب الدولة التركية ضد الكرد في عفرين دفعها لتغيير تركيبتها السكانيّة ثقافياً وإيديولوجيّاً بارتكاب جرائم إبادةٍ جماعيّة وأثريّة ولغويّة وثقافية وخطف وقتل آلاف الكرد، واقتلاع مئات الآلاف من أشجار الزيتون لتمحو أيّ معالم تدل على وجود الكرد في المنطقة.

في سعيها لمحو أي أثرٍ كرديّ من المدينة، غيّرت تركيا اسم ساحة آزادي «الحرية» المركزيّة في عفرين إلى ساحة «أتاتورك»، إذ استبدلت أنقرة الحرية بالعنف والقتل منذ الإبادة الجماعية للكرد في ديرسم عام 1937.

بإلقاء نظرة سريعة على السنوات الخمس من الاحتلال التركيّ لعفرين نفهم ما يحصل. يبلغ عدد المستوطنين الذين جلبتهم أنقرة من أجزاء أخرى من سوريا إلى عفرين 458 ألف شخص، ما لبثت أن أسكنتهم بمنازل الكرد. وعدد أشجار الفاكهة والزيتون التي تم اقتلاعها 311800، إذ نقل الكثير منها إلى تركيا. فيما يبلغ عدد الكرد الذين اضطروا للفرار من عفرين هرباً من الإرهابِ التركيّ 300 ألف شخص، يعيش الكثير منهم في خيامٍ في منطقة الشهباء شمالي حلب. أما أشجار الزيتون التي تم قطعها وبيعها كحطب فتبلغ 120000، في حين يبلغ عدد أشجار الزيتون التي تم حرقها 20000.

 8334 هو عدد الأشخاص الذين تم اختطافهم في الشوارع، حيث تعرض معظمهم للتعذيب والاحتجاز مقابل فدية. عدد منشآت الإنتاج والتصنيع التي تم تجريدها وسرقتها قبل إعادة بيعها إلى تركيا يقدّر بـ770. أما عدد المدنيين الذين قتلوا بدمٍ بارد بجرائم بشعة فقط لكونهم كرداً فيبلغ 690. ويقدّر عدد النساء المفقودات واللواتي تم توثيقهن من مشروع نساء عفرين المفقودات 150.

 120 مدرسة كردية تم تحويلها إلى منشآتٍ عسكريّة بما في ذلك زنزانات التعذيب، وتم تفكيك 108 مصنع زيت زيتون ونقلها إلى تركيا. ويقدّر عدد المواقع الأثرية القديمة والتلال التي تم تدنيسها وحفرها لبيعها للمتاحف 68 موقع.

والآن بعد مرور خمس سنوات على احتلال تركيا لعفرين، من الضروري معرفة كيفية بدأ هذا الاحتلال ولماذا. لا يقتصر الأمر على قيام تركيا بشكلٍ غير قانونيّ بتشكيل مناطق في شمال شرق سوريا تابعة لها وتسليحها، فيما ترتكب أفظع المجازر بحق الإنسان الكرديّ. تفعل تركيا ذلك بصفتها عضواً في حلف الناتو وبموافقة الدول الغربيّة التي ترفع لواء محاربة الإرهاب، في وقتٍ تقوم أنقرة برعاية الإرهاب ودعمه. وبما أنّ مدينة عفرين كردية، تُظهر تركيا في هذه المنطقة كل حقدها وعدوانيتها ضد الكرد، وأمام أعين العالم بأكمله.

لماذا غزت تركيا عفرين؟

كانت المدينة والمنطقة الجبليّة الخصبة حول عفرين مركزاً ثقافيّاً كردياً لأكثر من ألف عام. على مر القرون، تطورت عفرين لتصبح مركزاً مميزاً للإسلام الكرديّ الصوفي، الذي كان أقل تحفظاً وأكثر تسامحاً علمانيّاً من المناطق المجاورة. ونتيجة لذلك، نشطت فيها المجتمعات الإيزيديّة والعلويّة والمسيحيّة. هذه الثقافة الراسخة لقبول التنوع تبلورت حينما أصبحت عفرين ملاذاً للاجئين الفارين من العنف طوال الحرب الأهلية في سوريا.

في ربيع 2012، انسحبت الحكومة السوريّة من عفرين، الأمر الذي كان حجر الأساس لتشكيل الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا لتتولى زمام الأمور في يناير/كانون الثاني عام 2014. منذ ذلك الحين وحتى الغزو العسكريّ التركيّ بعدها بأربعة أعوام، ازدهرت عفرين لتصبح مدينة مسالمة تضمّ نحو 700 ألف شخص. وكونها مدينة متنوعة ومستقرة عرقيّاً وطائفيّاً ولا توجد فيها توترات طائفيّة وتقبل الاختلافات الثقافيّة والدينيّة، فرّ النازحون من جميع الأعراق داخل سوريا إلى عفرين.

نظر نظام أردوغان إلى النسيج الاجتماعيّ المتناغم في عفرين على أنّه تهديد وجوديّ عابر للحدود، لسببين. الأول: تبين أنّ تجربة الإدارة الذاتيّة نموذج قابل للتطبيق لمنطقة الشرق الأوسط بأكملها. وثانياً: كانت هذه الفلسفة التقدميّة توبيخاً مباشراً لتحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية المتشدد والقوميّ والذي تمحور حول الشوفينيّة العرقيّة التركيّة ضد الكرد وإعادة تفسير فاشية للإسلام المتطرف، والذي يتجسد عبر مجموعات مثل تنظيم “داعش” وغيرها من المتطرفين الذين باتوا، بحلول 2018، الحلفاء الوحيدين لتركيا في سوريا.

نتيجة لذلك، قرر أردوغان استخدام الجيش التركيّ جنباً إلى جنب مع الجهاديين الإسلاميين لغزو عفرين وتطويقها وتدميرها وممارسة التطهير العرقيّ واحتلالها بهدف إنشاء منطقة تابعة لتركيا شبه مستعمرة مع مستوطنين خارجيين وموالين لنظامه.

كيف اجتاحت تركيا عفرين؟

كانت حجة تركيا في غزو عفرين حماية أمنها القوميّ، لكنها لم تقدّم أي دليلٍ على وجود أي تهديداتٍ لأمنها القوميّ من عفرين. ومع ذلك، نظراً لأنّ أنقرة كانت حريصة على عدم المخاطرة بحياة جنودها، تحالفت مع الجماعات الإسلاميّة المتطرفة التي يزيد عددها عن 25000 مسلح، تمّ تدريبها وتسليحها ودفع رواتبها من قبل أنقرة. ضمّت هذه المجموعات العديد من المسلحين الجهاديين مثل «أحرار الشام» و«فيلق الشام» ومقاتلي «داعش» السابقين، كما ذكرت صحيفة «إندبندنت». وخلفهم، كان هناك حوالى 6400 جندي من القوات المسلحة التركيّة وأعضاء من منظمة الفاشية التركيّة «الذئاب الرماديّة» الذين اعتمدوا في الغالب على القصف المدفعيّ، في حملة قصفٍ لا رحمة فيها من الطائرات التركيّة، إذ لم يكن لدى قوات عفرين دفاعاتٍ مضادة للطائرات أو دبابات.

بدأ الغزو العسكريّ التركيّ غير الشرعي لعفرين، والذي أطلق عليه أيضاً اسم «عملية غصن الزيتون»، رسميّاً في 20 يناير/كانون الثاني 2018، في انتهاكٍ صارخ للقانون الدوليّ الذي يمنع مهاجمة أراضي دولة ذات سيادة دون إذن السلطات الرسميّة. استهدف الجيش التركي عمداً مدناً وبلداتٍ مكتظة بالسكان، ما أسفر عن مقتل حوالى 500 مدني، بمن فيهم النساء والأطفال وكبار السن في الأسابيع الأولى. وأطلقت تركيا النار عشوائيّاً على اللاجئين الفارين من مناطق الصراع واستخدمت الغاز الكيماويّ لمهاجمة مقاتلي المقاومة الكرد. وبذلك، انتهكت تركيا والجماعات الإسلاميّة المتطرفة التابعة لها اتفاقيات جنيف وارتكبت سلسلةً من الجرائم الوحشية والتي تصنّف جرائم حرب بحسب القانون الدوليّ.

سرعان ما كانت الدوافع الأيديولوجيّة لقوة الغزو التركيّة واضحة، إذ رأى الجهاديون، الذين يشكلون الغالبيّة العظمى من القوات البريّة المهاجمة، السكان الكرد في عفرين أنّهم «ملحدون» يستحقون الموت. تم تصوير ذلك في سلسلة من مقاطع الفيديو، إذ هدد وكلاء الأتراك بقطع رؤوس الكرد الذين وصفوهم بـ«الكفار». وفي مقاطع أخرى، غنى العديد من الإسلاميين الأجانب مادحين المعارك السابقة التي قاتلوا فيها، بما في ذلك تورا بورا (المقر السابق لأسامة بن لادن في أفغانستان) وغروزني في الشيشان وداغستان في روسيا. واختتموا هذا الفيديو سالف الذكر قائلين: «والآن عفرين تنادينا».

مع بدء القتال، سرعان ما طفت على السطح عدة مقاطع فيديو تُظهر مسلحين مدعومين من تركيا يشوهون ويلتقطون صور سيلفي مع جثث مقاتلات وحدات حماية المرأة الكردية، كان أبشعها فيديو لامرأة شابة تُدعى بارين كوباني قُطع ثدييها، تلاها هتافات «الله أكبر». في ظل هذه المعتقدات الشائنة، مثل القوة الدافعة لهم، وإلى جانب التفوق العسكري الكبير، طوق الجيش التركي عفرين واحتلها بالكامل بعد شهرين من القصف.

خلال تلك الهجمات، كان عدد من المراقبين الموثوق بهم يحذرون من انتهاكات تركيا، مثل المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان زيد بن رعد الذي حذر من الجرائم التي تحصل في عفرين بسبب الهجوم التركي.

ماذا فعلت تركيا في عفرين؟

بدأ احتلال تركيا لعفرين والقرى المحيطة بها رسميّاً في 25 مارس/آذار 2018، فيما حوّلت السياسات والإجراءات الوحشيّة التركيّة عفرين من منطقة متنوعة مزدهرة إلى مكانٍ كئيب بائس.

وضح العنف التركيّ منذ اللحظة الأولى لدخول القوات التركية ومرتزقتها عفرين، حيث كان أول عمل للقوات الإسلاميّة الغازية تدمير تمثال الشخصية الكرديّة الأسطوريّة كاوا الحداد، وهو شخص محوريّ في عيد نوروز الكردي ويرمز إلى النضال من أجل الحرية ضد الاستبداد.

كما أشرت سابقاً في خطابي في سبتمبر/أيلول 2019 أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، يعاني الكرد في عفرين من الاضطهاد الاجتماعي والسرقة الاقتصادية والإبادة الثقافية.

اجتماعيّاً، يعاني كرد عفرين من الاعتقال التعسفيّ والاعتداءات والتعذيب والاغتصاب والاتجار بالبشر والاستعباد الجنسيّ والاغتيالات والاختفاء القسري عند نقاط التفتيش وعمليات الخطف في وقتٍ متأخر من الليل على أيدي العصابات الإجراميّة، وإحراق قراهم.

اقتصاديّاً، يعاني كرد عفرين من نهب المتاجر ومصادرة المنازل وسرقة السيارات ونهب المواشي ومصادرة الأراضي وفرض ضرائب الشريعة وابتزاز الشركات وخطف أكثر من خمسة آلاف مقابل فدية، وإحراقٍ متعمد لأكثر من 11 ألف هكتار من الغابات، فضلاً عن السرقة المنهجيّة لصناعة زيت الزيتون في عفرين، والتي تُهرّب إلى أوروبا لبيعها.

ثقافيّاً، يعاني كرد عفرين من التطهير العرقيّ الديمغرافيّ وتتريك النظام التعليميّ وأسماء الشوارع وتدمير الآثار الثقافيّة الكرديّة وتدنيس الأضرحة المقدسة للعلويين والإيزيديين وقطع الأشجار المقدسة والتنقيب عن الآثار وتهريب أكثر من 16 ألف قطعة أثريّة تاريخيّة بيعت بعد ذلك بشكلٍ غير قانوني إلى المتاحف في تركيا.

من جانبٍ آخر، يتعرضُ سكان عفرين إلى التهديد من قبل عصاباتٍ من السماسرة في بيع الأراضي الإجباري بأسعارٍ محددة تشرف عليها الاستخبارات التركيّة بهدف نقل الملكية القانونيّة إلى أناسٍ جدد. وغالباً ما يُستولى على أكبر وأفخم المنازل من قبل المرتزقة بحجّة تحويلها إلى مقراتٍ عسكريّة أو غرف تعذيب، كما تحدثت ممثلة مجلس سوريا الديمقراطية سينم شيركاني فيما يتعلق بمنزل عائلتها، حيث كتبت:

«بيتي في قريتي الذي بنيناه كل حجر بحجره، تمت مصادرته وتحويله إلى مركز استجواب. أخبرني بعض جيراني السابقين في المنطقة قائلين “نعلم جميعاً أنه إذا تم إحضارنا إلى منزلك، فسوف نتعرض للتعذيب”. حديقة منزلي التي عشت فيها طفولتي وقضيت فيها أياماً جميلة تحولت الآن إلى مكانٍ للقسوة والعذاب، حيث يعذبون شعبي وأهلي الكرد بساديّةٍ ووحشيّة».

علاوة على ذلك، أشار تقريرٌ صدر عام 2019 إلى مكتب المفوض السامي لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى أنَّ «ضحايا عمليات الاختطاف من قبل الجماعات المسلحة غالباً ما يكونون من أصل كردي، فضلاً عن المدنيين الذين يُنظر إليهم على أنّهم مهمون في المجتمع، بما في ذلك الأطباء ورجال أعمال والتجار، إضافةً إلى إجبار الشباب الذين اشتبهوا بانتمائهم إلى تنظيمات كرديّة مؤيدة للإدارة الذاتية على دفع غرامة قدرها 400 دولار لإطلاق سراحهم».

بعد ذلك بعام، تم تقديم تقرير في سبتمبر/أيلول 2020 إلى «اللجنة الدوليّة المستقلة لتقصي الحقائق بشأن سوريا» إلى الدورة 45 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. ووثقت اللجنة بعض جرائم الحرب التي ارتكبت في عفرين المحتلة، ينصُّ على أنّ مقاتلي «الجيش الوطنيّ» والقوات التركية: «أجبروا السكان، وخاصةً من أصلٍ كرديّ، على الفرار من منازلهم من خلال التهديدات والابتزاز والقتل والاختطاف والتعذيب والاحتجاز». كما يشير التقرير إلى «نهب ممتلكات الكرد والاستيلاء عليها من قبل عناصر الجيش الوطنيّ بطريقة منظمة». كما تحدث التقرير عن سرقة ميليشيا “الحمزات” منزل عائلة كردية وتحويلها إلى معهد للقرآن الكريم تديره منظمة تركيّة غير حكومية افتتحها حاكم ولاية أورفا التركيّة.

دموية تركيا

لتوضيح عمق تأثير «الجهاد» الذي أقرته تركيا في بداية هجوم عفرين، دعت مديرية الشؤون الدينية التركية (المعروفة أيضاً باسم ديانت) جميع المساجد في تركيا لقراءة سورة “الفتح”، وطلبت من جميع المسلمين الصلاة من أجل الغزو. ثم صدرت فتاوى من “المجلس الإسلامي السوريّ”، الذي يتخذ من إسطنبول مقراً، تدعم جرائم الحرب المختلفة. وصدرت فتوى تصف نهب الممتلكات الخاصة بأنّها «جهاد في سبيل الله» ومجرد «غنائم حرب». وصدرت فتاوى أخرى في مايو/أيار ويونيو/حزيران 2018 وصفت حزب الاتحاد الديمقراطي، بأنّه حاقد وعلمانيّ وفاسد ومنحرف، ما يبرر بالتالي سرقة ونهب ممتلكاتهم.

في إحدى المرات، اشتكى مواطن سوريّ جاء الى عفرين مع الذين لجأوا بسبب الحرب من الفوضى الخارجة عن القانون، قائلاً: «مجرد أن تتجولَ في عفرين ستشعر فوراً أنَّ قوة السلاح فقط هي التي تحكم هذه المنطقة. هناك ظاهرة مروّعة وهي انتشار المتاجر التي تبيع الأسلحة.  تشرفُ ديانت التركية أيضاً على جهدٍ منسق لفرض الشريعة واللباس الإلزاميّ والحجاب على النساء، على غرار ما فعله “داعش”، مع تدمير الأضرحة الدينيّة القديمة والإيزيدية».

فيما يتعلق بالإيزيديين، الذين حاول تنظيم “داعش” المدعوم من تركيا القضاء عليهم من خلال الإبادة الجماعيّة، تم تدمير مزاراتهم التي سُميت على اسم «بارسا خاتوم» و«جيل خانه» و«قره جرنة»، بالإضافة إلى «الشيخ حميد» و«غريب» و«بركات» و«منان». فيما تم اقتلاع وإخلاء قرى الإيزيديين وهي قسطل جندو وبافالون وسينكا وقطمة وباصوفان وغزاوية وإسكا وعرش قيبار وإسكان شرقي وشيه وعين دارا.

قطعت الجماعات الإسلاميّة المدعومة من تركيا الأشجار المعمرة في العديد من القرى التي يربط العلويون بها شرائط صغيرة ويتمنون ما يريدون، كطقسٍ روحانيّ لديهم.

اعتدت ودنست تركيا المناطق الأثريّة أيضاً، ودمرت الغارات الجويّة التركيّة العديد من المباني القديمة بما في ذلك كنيسة جوليانوس، وهي واحدة من أقدم المعابد المسيحيّة في العالم، ومعبد عين دارا الشهير، كما تم تدمير الأديرة والمقابر البيزنطيّة.

تتزامن هذه الوحشية مع نهب تركيا 35 تلاً تاريخاً في أجزاء مختلفة من عفرين. كما تم نبش القبور بحثاً عن الذهب والمقتنيات الثمينة. إضافةً إلى ذلك، دمّرت أيضاً الضريح المخصص للثوري والكاتب الكرديّ نوري ديرسمي (1893-1973) جنباً إلى جنب مع زوجته فريدة.

تتريك عفرين من أجل ضمها

أخيراً، فيما يتعلق باستراتيجية أنقرة للتتريك، فإنَّ مطالبتها بالاستيلاء على الأراضي السوريّة كان موضع تساؤلٍ منذ اللحظة الأولى لها في عفرين، عندما رفع الجيش التركيّ علمه على المباني الحكوميّة وليس علم ما يسمى «الجيش الوطنيّ السوري». ثم بدأت الدولة التركيّة بإجبار تلاميذ المدارس على حمل العلم التركيّ وصور أردوغان. علاوة على ذلك، تمجّد الكتب المدرسيّة التركيّة المفروضة الآن تاريخ الإمبراطورية العثمانيّة، بينما تضطر مدارس عفرين للاحتفال بأعياد تركيا الرسميّة، وهو ما يفسر سبب انخفاض عدد التلاميذ الكرد في عفرين من 95% إلى 30%.

تبع ذلك تغيير الأسماء الرسميّة للأماكن من الكرديّة إلى التركيّة، وحظر اللغة الكرديّة وإصدار الهوية التركيّة وبطاقات الإقامة المؤقتة واستخدام الليرة التركيّة كعملةٍ رسميّة وتعيين والي (وصي) والقائم مقام (محافظ) في عفرين وربطها بولاية هاتاي التركيّة. اللافت للنظر كذلك أنَّ وزير الداخلية التركيّ سليمان صويلو علّق خلفه صوراً كبيرة لأردوغان وأتاتورك عندما زار مركز قيادة القوات الخاصة التركيّة في عفرين بمناسبة عيد الأضحى عام 2021.

شهادات

كل هذا يشير إلى حقيقة أن تركيا لا تنوي مغادرة عفرين أبداً، بل تنوي احتلالها بشكلٍ دائم على غرار هاتاي (لواء إسكندرون) منذ عام 1939 وشمال قبرص منذ عام 1974. ومع ذلك، في حالة عدم القناعة بهذا الكلام، سأختتم باقتباسات من مراقبين دوليين وضحايا من عفرين لأنّ الحقيقة في الأخير تأتي ممن عايشوا الظلم والعنف والتهجير.

مفوضة اللجنة الأميركية للحرية الدينية الدولية نادين ماينزا USCIRF

«القتل والاغتصاب والخطف والابتزاز والتحويل القسريّ وتدمير المواقع الدينيّة. من المهم أن يقف المجتمع الدوليّ من أجل عفرين الحرة، ومحاسبة تركيا على هذه الجرائم».

تقرير 2020 من لجنة التحقيق الدولية المستقلة إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة

«في عفرين في ديسمبر/كانون الأول 2019، انتقل عنصر كبير في لواءٍ من الجيش الوطني السوري من بابٍ إلى باب داخل مبنى سكني كبير، وطلب إثبات ملكية السكن فقط من الكرد. أحد السكان الذي لم يتمكن من تقديم أوراق الملكية أُجبر على الحضور إلى مكتب أمن اللواء، حيث تعرض للإساءة اللفظية وقيل له: ‘إذا كان الأمر بيدي، فسوف أقتل كل كردي من سن 1 إلى 80 عاماً’. كما تم تهديده بالاحتجاز. بعد ذلك، ترك الرجل منزله ورحل خوفا على سلامة عائلته».

تعليقات من ضحايا في عفرين

ــ طالب كرديّ في عفرين:

«لا أشعر بأنني أنتمي لهذا المكان، ولست متأكداً مما يعنيه هذا الوطن بالنسبة لي لأنّه لا يحترم لغتي. المناهج جزء من النظام السياسي، وهذه المناهج لا تذكر الوجود التاريخيّ للكرد في سوريا، وتحث الناس على النأي عن المكان وإلغاء الانتماء إليه».

ــ فتى كرديّ يبلغ من العمر 13 عاما يصف ظروف السجن:

«كنا نحصل على حبة بطاطا واحدة وقطعة خبز مرة واحدة في اليوم، وأن حتى حبة البطاطا هذه لا نستحقها، وأننا أمهاتنا وأخواتنا عاهرات».

ــ رجل كردي، بعد 23 يوماً في الحجز التركي، يشرح كيفية ربط يديه بساقيه وتعليقه من السقف:

«لقد أبقوني هكذا لمدة ساعة أو أكثر، وإذا لم تجب على أسئلتهم، فإنّهم يواصلون تعذيبك حتى تشلَّ أطرافك. بعد ذلك بأسبوعين، لم أستطع تناول الطعام لأنّ يدي كانتا متيبستين».

ــ ليلى محمد أحمد، كردية من عفرين تبلغ من العمر 63 عاماً سُجنت لمدة 17 يوماً وشاهدت 10 شابات يقتلن أنفسهن بعد اغتصابهن من قبل عناصر «لواء السلطان مراد»:

«استخدم بعضهن أحزمة لشنق أنفسهم، وبعض الأقلام أو غيرها من الأدوات الحادة التي قمن بوضعها في حلوقهن. ومنهن من خبطن رؤوسهن بالحائط. كنا حوالى 150 شخصاً. كنا نحصل على حبة بطاطا مع نصف رغيف خبز مرتين في اليوم، ويضربوننا كل ليلة من الساعة 1 صباحاً حتى 3 صباحاً. في كل ليلة، كان السجانون يأخذون بعض الفتيات، ويستخدمون عبارات سخرية مثل ‘سوف نأخذك إلى الطبيب ليعالجك’».

ــ تقرير 2021 لمجلة «ييل» للشؤون الدولية بعنوان «أصوات من عفرين»

«اختطفت السلطات التركية إحدى الكاتبات من منزلها في عفرين وأخذتها إلى مركز اعتقالٍ تركي حيث روت تجربتها. وصفت فتاة تبلغ من العمر 11 عاماً حاولت خنق نفسها وهي تسمع صراخ والدتها بسبب التعذيب في زنزانة قريبة. ومن أساليب التعذيب الأخرى التي روتها، كسر الأسنان وقص الشعر ووضع السكين على الرقبة والتهديد بالذبح كما تذبح الحيوانات. كما كان المعتقلون يعانون من الجوع، بما في ذلك كبار السن والنساء والأطفال».

الآن، وبعد كلّ ما سبق بإمكانك القول إنّك لا تهتم، لكن لا يمكنك أبداً أن تقولَ إنك لست على دراية لما حدث في عفرين.

د. ثورو ريدكرو محلل أميركي في مجال النزاعات الدولية متخصص في الشؤون الجيوسياسية وقضايا الشعوب عديمة الجنسية والحركات المسلحة. د. ريدكرو ضيفٌ دائم في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف وعمل مستشاراً في السياسة الخارجية لعدة مجموعات تسعى لنيل حق تقرير المصير. عمل في السابق ميدانياً في مختلف أنحاء أوروبا وأميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي وشرق إفريقيا والشرق الأوسط. يتولى حالياً، بالتشارك، إدارة قسم اللغة الإنكليزية في المركز الكردي للدراسات.

مقالات ذات صله

Show Buttons
Hide Buttons