ديسمبر 23. 2024

بعد أن ضربه.. مسلّح يعتذر لآخر “لا تواخذنا فكرتك كردي” أثناء توزيع المساعدات في مدينة جنديرس المنكوبة

على طرفي الطريق الواصل بين جنديرس ومدينة عفرين، تنتشر الخيام التي أصبحت الخيار المفضل للمدنيين… لا يكل الأهالي من السعي وراء خيمة يعتبرونها اليوم طوق النجاة من الموت القادم من الأرض.

لم تمضِ على وصولنا الى بلدة جنديرس بريف مدينة عفرين إلا دقائق حتى علت الصرخات من حولنا، إذ انهار بناء متصدع، على رغم مرور أكثر من أسبوعين على كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، فالهزات الارتدادية لا تزال ترعب من نجوا، وتهدد المنازل المتصدّعة.

سارعنا إلى جوار المبنى الذي سُوّي نصفه بالأرض، لم يغادر سكانه عقب الزلزال على رغم تصدّع البناء، فلا مكان ينزحون إليه حسب ما قالوا في حديثهم لفرق الدفاع المدني، التي أخرجت من كان بداخله وأمنت محيطه تحسباً لانهياره بالكامل.

لم يتضرر داخل مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية بالزلزال المدمر بشكل كبير، لكن محيطها وتحديداً بلدة جنديرس التابعة لها، دُمر نحو 50 في المئة من مبانيها الطابقية (185 بناية)، كما فقد أكثر من ألفي شخص حياتهم نتيجة الزلزال في هذه البلدة فقط، بحسب ما قال وائل وليد (اسم مستعار) في حديثه لـ “درج”.

يغلق وائل، الشاب الثلاثيني الكردي، باب دكانه الصغير الواقع في سوق البلدة، والذي صمد في وجه الزلزال، ليخبرني ورفاقه المجتمعون في الداخل، عما يعانونه من ظلم وانتهاكات فوق خسارتهم منازلهم وأقرباءهم.

لم يكن ما حدث لحظتها، حين وجدت نفسي داخل الدكان، مقابلة صحافية أو قصة ناج من الزلزال، أعادني ما حدث إلى ما سمعته وقرأته عن خوف الناس من المخابرات أو أن يسمع أحد ما يتحدثون حوله.

حاول وائل بعد إغلاق باب الدكان، أن يلمّح لي عما يتعرضون له من ظلم وتمييز  من جانب الفصائل التي تسيطر على المنطقة، تدخّل الصديق الذي كنت برفقته مؤكداً للمجتمعين بأن يتحدثوا بكل صراحة، فربما تجد معاناتهم آذاناً صاغية.

يقول وائل إنه قبل بداية الثورة في عام 2011، كان الأكراد يشكلون نسبة 80 في المئة من سكان بلدة جنديرس، في مقابل 20 في المئة من العرب. لكن مذاك، نزح نصف سكانها خلال فترات مختلفة، وبعد تهجير المدنيين من حلب والغوطة، زاد عدد سكان البلدة ثلاثة أضعاف، وأُنشئت مبان طابقية كثيرة لم تكن موجودة من قبل، فمعظم منازل البلدة كانت تتألف من طابق واحد أو اثنين على الأكثر.

يلفت وائل الى أنه نزحوا جميعاً من منازلهم، عقب الزلزال، الى القرى المحيطة، محاولين إيجاد سكن موقت إلى حين استقرار الوضع، لم يأخذوا معهم شيئاً من حاجياتهم لشدة الخوف، لكن في المقابل لم تصلهم أي مساعدات أيضاً. لم يبحثوا عن الرفاهية، كل ما طلبوه هو بطانيات وفرش وخيام.

يضيف وائل، “بعدما وصلت إلى منزل أهلي البعيد عن البلدة نحو 20 دقيقة، في اليوم الثاني للزلزال، خرجت لاستلام بعض المساعدات التي وصلت إلى القرية، لكني سرعان ما عدت إلى المنزل خالي اليدين”.

يؤكد وائل أنه عندما اقترب من شاحنة المساعدات المركونة في ساحة القرية، شاهد عناصر الفصيل المسيطر على المكان يحيطون بها، ولم يسمحوا للمنظمات بالعمل وتوزيع المساعدات إلا تحت إشرافهم. ويستطرد بعدها ليخبر عن خلاف نشب بين أحد عناصر الفصيل والمدنيين بالقرب منه، فسارع عناصر الفصيل الى ضرب الناس بالعصي التي يحملونها، ليرد أحدهم بأنه عسكري أيضاً، فاعتذروا منه على الفور بقولهم “لا تواخذنا معلم فكرتك كردي”. يضيف وائل ودموعه تسبق كلماته، “يعني نحن ما بشر، مسموح ننضرب من عناصر كل فصيل وما نقدر نرد بكلمة، عدت إلى المنزل ولو بدي موت لن آخذ مساعدات توزع تحت إشراف هؤلاء”.

يقول فؤاد (اسم مستعار)، “فقدت شقيقي وزوجته واثنين من أطفاله، لم تنجُ من أسرته إلا ابنته البالغة ست سنوات، تعيش اليوم معي ومع زوجتي وأطفالي الأربعة، نسكن في خيمة بقريتنا بالقرب من منزل أهلي المتصدّع، لكن على الأقل يمكننا استخدام المرحاض والحمام فيه”.

يضيف فؤاد، أن قافلة المساعدت الآتية من إقليم كردستان العراق وصلت منذ أكثر من أسبوع، ولم يُوزع إلا قسم قليل منها حتى اليوم، والسبب أن الفصائل تريد السيطرة على القافلة وتوزيعها كما تريد، وهذا ما رفضته المنظمات التي جاءت من الإقليم، والتي طالبت بتوزيع القافِلة بنفسها، الأمر الذي لم تسمح به بعض الفصائل، على رغم حاجة الناس الماسّة اليوم الى أي دعم يصل.

يستطرد فؤاد قائلاً “إن هناك منظمات وأفراداً يوزعون المساعدات النقدية سراً بَعيداً عن أعين الفصائل، فعلى سبيل  وصل أحدهم إليّ وسلمني مبلغاً مالياً، وقال لي اشترِ ما يلزمك ولكن لا تخبر أحداً أنك تسلّمت مني شيئاً”. يضيف فؤاد، أنه على رغم حجم الكارثة الكبير، لا تزال المساعدات وعدالة توزيعها العائق الأكبر الذي يحول دون تحسين ظروف الناجين القاسية.

خرجت من الدكان، فالتقيت خلال تجوالي في سوق البلدة، بأحمد الرجل، الذي خرج وأسرته من تحت الأنقاض بعد ساعات من وقوع الزلزال، لكنه فقد والدته التي بقيت تحت الأنقاض لأيام قبل أن تتمكن فرق الدفاع المدني من انتشالها جثة هامدة، دفنها أحمد في مقبرة البلدة بالقرب من معارفه وأصدقائه الذين فقدوا حياتهم نتيجة الزلزال.

يقول أحمد  بغضب مختصراً الوضع: “أقسم لك بأن المقاول الذي بنى البناية التي كنت أسكن فيها مع عائلتي، والتي وقعت فوق رؤوسنا، يعمل اليوم مدير منظمة إغاثية يقوم بتوزيع المساعدات على السكان”.

يتساءل أحمد، لماذا لا تتم ملاحقة المقاولين الذين شيدوا هذه المباني التي سقطت كلها كما يجري في تركيا؟ خصوصاً أن الأمر هنا أبسط، كون المقاولين الذين عملوا في البلدة لا يتجاوز عددهم العشرة، وهم معروفون من الجميع، لكن لم يتم توقيف أحد منهم حتى الآن.

لم يتبقَّ أي بناء سليم في “الشارع المبلط” كما يسميه سكان البلدة، والذي التقيت فيه أم فراس، النازحة من ريف حلب الغربي، والتي تسكن في خيمة منذ ثلاث سنوات مع أحفادها الثمانية، بعدما قتل قصف نظام الأسد الأب والأم. تقول لـ”درج”، “خرجت من الخيمة بعد الزلزال، لم أكن أعلم ماذا يحصل، ولكني شاهدت المباني المجاورة لخيمتي قد سُويت بالأرض، كانت تسكن هذه المباني الثلاثة -تشير إليها وهي تحدثنا -عائلات من حلب وحمص ودمشق وجنديرس، خرج منها 10  أشخاص فقط على قيد الحياة، ينتمون الى أسر مختلفة، استقبلتهم في خيمتي هنا، ويعيشون اليوم معي، ومن تبقى منهم أخرجتهم فرق الإنقاذ جثثاً هامدة، أتوقع أنهم أخرجوا ما يزيد عن 70 جثة”.

على طرفي الطريق الواصل بين جنديرس ومدينة عفرين، والذي تحيط به أشجار الزيتون، تنتشر الخيام التي أصبحت الخيار المفضل للمدنيين، وعلى رغم صعوبة الحصول على واحدة منها، لا يكل الأهالي من السعي وراء خيمة يعتبرونها اليوم طوق النجاة من الموت القادم من الأرض.

المصدر : منصة درج

مقالات ذات صله

Show Buttons
Hide Buttons