نوفمبر 14. 2024

أخبار

“في عرس ابنتي وزّعت خمسين قطعةً”… “القنويج” اليدوي الكردي حكاية الجدّات الحزينات

“آخ يا بنتي شو ساوي فيهن، بناتي الخمسة تغرّبوا، وأنا أفتح هالصندوق، وأبكي عَ هالقنويج”؛ هكذا تحدثت موليدة أم حسن، الستينية، من أهالي مدينة عفرين في سوريا، والحسرة تعتصر قلبها، عندما فاتحتها بسيرة الـ”قنويج”.

الصندوق لديها ملآن بها، من وجوه المخدّات، والشراشف، واللحف، وأغطية للطاولات والخزانة التي كانت تحمل الفرش، وحتى أغطية أضواء الكاز الصغيرة، وماكينة الخياطة، بالإضافة إلى لوحات جدارية للزينة.

“كم قضيت الليالي، وأنا أعدّ جهاز كل ابنة لي، إذ ما إن كانت تحل العطلة الصيفية، وتنتهي المدارس، حتى كنت أشتري الأقمشة والخيطان، وأُجلِس بناتي حولي، وهنّ ما بين العاشرة والسادسة عشر، حتى أعلمهنّ الحياكة والتطريز، وما كان ينتهي الصيف حتى تكون كل واحدة قد أنجزت قطعتين على الأقل”.

كان “القنويج” Qenewȋç من الحِرف الأساسية التي أتقنتها الأمهات والفتيات الكرديات، ومارسْنها خلال أعمالهن اليومية، وفي ليالي الشتاء الطويلة، على ضوء الكاز، في فترة من فترات حياتهنّ، قبل أن تغزو الحداثة الأثاث المنزلي.

“تزوّجن، وكان لابنتيّ الكبيرتَين نصيب منه، ولكن البقية لم يرغبْن به كثيراً، بل تغيّرت تجهيزاتهن للزواج، وللأسف أبعدتهنّ الحرب اللعينة عني، وبقي جميع ما صنعته، وما صنعْنه، متروكاً لديّ”، قالت ودمعة تنزل من طرف عينها.

“لكل قطعة حكاية”

تقول الجدة موليدة، إن لكل قطعة حكاية تتذكرها، كما لو أنها حدثت أمس، منها ما تعيدها إلى والدتها لمّا كانت طفلةً تلعب في براري قريتها الجبلية، وكيف كانت تناديها، وتُجلسها إلى جانبها، وتعلّمها رسم الغزلان، والطيور، بالخيوط الملوّنة، وأخرى تعيدها إلى بناتها وهن صغيرات، وقد جلسن حول والدهنّ وهو يسرد لهن قصص الغول، والأمير المغوار، بينما هي تمسك “القنويج”، وتصنع زهوراً بأشكال متتالية، ومتناسقة، وجميلة، كما ذكريات زفافهنّ، وطقوسه.

تضحك، وتضيف: “في عرس بنتي، وزّعت 50 قطعة، وما تركت حدا يعتب عليّ، وعطيتها كتير. حسبت حسابها، وحساب ضيوفها كمان”.

وتؤكد الجدّة أن منزلها كان مزداناً بتلك الرسومات على الطاولات، والزوايا، والمخدّات، والخزانة، وحتى على الجدار كلوحات زينة إلى أمد ليس ببعيد، مبهرةً بها ضيوفها وجيرانها، من دون أن تبخل على من ترغب منهنّ في التعلم، فتعلّمها، أو تقدّمها كهدايا في مناسبات الزواج، والولادة، وغيرها.

أما نيروز، ابنتها البالغة من العمر 42 عاماً، فتقول عبر الهاتف: “كانت هناك متعة حقيقية وأنا أنجز رسومات لزهور ونباتات أتفنن فيها، كما أني كنت أجلب ‘كاتالوغات’ خاصة بالرسومات، وأطوّر ما كانت تعلّمني إياه أمي”.

تتابع: “الجميل في تلك المهارة التي أتقنتها، هي اللحظات التي كانت تجمعنا مع بقية الصبايا، والقصص التي كنا نسردها. أتساءل لمَ لا نحاول أن نعيد إحياء هذه الحرفة، وأنا هنا في ألمانيا؟ تحدثت عنها لابنتي، لكنها لم تستسغ الفكرة، ولا ألومها، فهي كبرت في ألمانيا، ولا تعرف أصلاً ما قيمة هذه الحرفة بالنسبة إلينا، وكيف أنها جزء من ذاكرتنا، في بلدنا الأم”.

تحتاج إلى الدقة والصبر

كانت أم حسين السبعينية، وهي من أهالي مدينة قامشلي السورية، تغمرها السعادة حينما كانت تنجز إحدى القطع، بعد أن تتفنن في ألوانها وأشكالها.

أخرجت سُرّتها المحفوظة فوق خزانة الملابس، وقد أكل اللون الأصفر من قماش بعضها، بسبب الزمن، وبعد أن عرضتها، وعيناها ملؤها الفرح، وكأنها عادت صبية، حكت قصة كل قطعة منها.

“أغلبها كنت أقدّمها كهدايا لقريباتي وجيراني، لكني بعد أن كبرت، ولم يعد أحد يرغب في إتقانها، واقتنائها، توقفتُ، مع أني قادرة، وأنا في هذا العمر، على أن أعود لإنجاز الرسمات نفسها، وغيرها، لكن من يسأل؟ ولمن سأصنعها؟”.

تضيف: “ابنتي… كنتُ ماهرة في التطريز والخرز أيضاً، حتى أني علّمت بعض البنات المقبلات على الزواج، من دون مقابل، وقد شكرنني كثيراً، وأنجزْن لأنفسهن قطعاً عديدة. انظري إلى هذه القطعة وهذه الرسمة، إنها تحتاج إلى الكثير من التأنّي، والصبر، والدقة، لإنجازها بهذا الشكل الرائع”.

ما إن انتهت، عادت ورتّبتها بحرص شديد، وربطتها، وحمّلتها ذكرياتها لتحفظها، وتحفظ تلك اللحظات التي أعادتها إلى شبابها، وربما إلى زوجها المتوفى، وأطفالها حين كانوا صغاراً. لم تستطع أن تغور في تفاصيلها أكثر، وتحركت وفي مشيتها حنين شديد، وحزن على فنٍّ تُدرك في قرارة نفسها أنه اندثر.

قماش أبيض وخيوط ملوّنة وإبرة

لـ”القنويج” وظيفة تزيينية، من خلال القطع التي كانت تصنعها النساء للفتاة المقبلة على الزواج، وتتألف من أغطية مخدّات، وشراشف، وفرشات، ومحارم للجيب، ولوحات جدارية للزينة، وصدريات الأطفال.

وكانت أهم هذه القطع للعروس، هي محارم الجيب، وبعدد كبير، كي تهديها إلى الجيران والأقارب الذين كانوا عوناً للعرسان في حفلة العرس الكبيرة، التي عادةً كانت تستمر ما بين يوم كامل وثلاثة أيام.

أما لوحات الزينة الجدارية، فكانت تجسّد مواضيع متنوعة من البيئة المحيطة، أهمها الفرس، والنسر، وكذلك لوحة “الزعيم”، وهو شخص بلباس فلكلوري كردي، ولم يكن يمثل شخصاً محدداً، بل كان تعبيراً عن الزعامة، والرجولة، والبطولة، حسب ما جاء في كتاب “صفحات من التراث المادي واللا مادي في جبل الكرد-عفرين”، للباحث نضال يوسف.

وكان تجهيز الأدوات من قبل الفتيات، يمر بمراحل، وحسب المرجع نفسه، تبدأ بقماش “أبيض سادة” يُسمّى “خاصّة”، ومجموعة خيوط ملوّنة، وإبرة، وقماش شبكي يُسمّى “الغربول”.

أما صناعتها، فتبدأ بتثبيت “الغربول” على “الخاصّة”، والبدء بالعمل بتمرير الخيوط المطلوبة ضمن الثقوب، ورسم مختلف الأشكال الحيوانية والنباتية. وما أن تنتهي السيدة من الرسمة، والتي قد تستمر فيها لأيام، وربما لأسابيع، حتى تسحب “الغربول” منها، فتظهر الرسمة بألوانها الجميلة.

وفي مرحلة لاحقة، ظهر نوع آخر من “القنويج”، ويُصنع بالطريقة نفسها، لكن باستعمال الخرز الملّون بدلاً من الخيوط، وهو أكثر تميزاً، ويحتاج إلى حرفية عالية، وذوق فني رفيع.

وأشار المؤرخ الكردي عبد الله قره مان، إلى أن “’القنويج’ إبداع فني اشتهر لدى النساء الكرديات عبر التاريخ، وتحديداً في مرحلة المجتمع الإقطاعي، إذ لم يمرّ الكرد بالمرحلة العبودية، وكان الهدف منه أن تزيّن المرأة منزلها، أو تتحضر للزواج”.

ويشير قره مان، إلى أن هذه الحرفة اليدوية تقوم على نقل رسومات النباتات، والحيوانات، في البيئة المعيشة، بأنواعها المختلفة، والمستمدة من الذاكرة الجماعية، ومن الجدات والأساطير القديمة، مثل لوحة شاه ميران، التي تشبه إلى حد كبير كأس أوروك النذري، وهو قطعة أثرية يعود تاريخها إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.

“ما عدا شاه ميران، هناك رسومات كثيرة تترجم مشاعر أصحابها، وأحاسيسهم، وتعبّر عن ثقافة الكرد، من أساطير، وقصائد شعرية، وقصص شعبية، وأخرى هندسية، وعن مواضيع مختلفة، مثل الصليب الآري، ولوحظت هذه الرسومات، في شمال كردستان خاصةً، وهو عبارة عن صليب متساوي الأضلاع، وبأشكال مختلفة، ويظهر في المنحوتات أيضاً”.

الآلات بديلاً عن العمل اليدوي

تراجعت هذه المهنة، كالكثير من المهن اليدوية، بعد ظهور التكنولوجيا، “إذ تنجز الماكينات هذه الرسومات، من دون الحاجة إلى المهارة اليدوية، لكن “القنويج” هو أحد أشكال الإبداع الفني الكردي، ومن الجيد أن تقوم الفتيات بالمحافظة على هذا التراث الثقافي”، يضيف الباحث.

ومنذ أربع سنوات، أسست هيئة الثقافة في إقليم الجزيرة، في شمال شرق سوريا، ورشة “ليليت” للألبسة الفلكلورية والأعمال اليدوية، وكان “القنويج” أحد الأعمال التي جُلبت نماذج منها من القرى المليئة بها إلى الآن، وقد تراجعت استخدامات القطع المشغولة عليها.

تقول روضة حسن، الرئيسة المشتركة لهيئة الثقافة، حول ذلك: “ارتأينا ضرورة افتتاح هكذا مشروع، بغية إعادة إحياء الفلكلور الكردي الذي تراجع في ظل الغزو التكنولوجي، والآلات الحديثة، وبقي مقتصراً على عدد قليل من النساء، وهو على وشك الزوال”.

وتؤكد حسن أن أعمال ورشة “ليليت”، لاقت رواجاً عند عرضها في المعرض السنوي المقام ضمن فعاليات مهرجان المرأة للثقافة والفن، فافتتح محلاً لتصريف المنتوجات، من “قنويج”، و”تنتنة”، و”كمر” (شوحي)، وأساور، وسلاسل، وقد نُفِّذت بغرض الزينة فحسب، وليس كضرورة من ضرورات المنزل، أو الفتاة.

“ندرّب الآن الراغبين/ ات، بهدف الحفاظ عليها، ونقلها إلى الأجيال القادمة، فهي مخزون وإرث فني فلكلوري يتم من خلاله التعرف إلى ثقافة المنطقة”، تختم حديثها.

ويبقى “القنويج” من حكايات الفتيات في زمن الأبيض والأسود، وما زلن يحتفظن به وهنّ عجائز، ويدركن أن التخلص منه يعني القضاء على ماضيهن الجميل بحلوه، ومرّه.

المصدر : رصيف 22

https://raseef22.net/article/1084820-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D8%B1%D8%B3-%D8%A7%D8%A8%D9%86%D8%AA%D9%8A-%D9%88%D8%B2%D8%B9%D8%AA-%D8%AE%D9%85%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D9%82%D8%B7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%86%D9%88%D9%8A%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%AF%D9%88%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A-%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B2%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%AA

مقالات ذات صله

Show Buttons
Hide Buttons