عفرين بوست- خاص
بلغت نسبة التضخم ضمن المناطق المحتلة من قبل تركيا في الشمال السوري 464 بالمئة منذ عام 2020، حيث قررت القوى السورية الموالية لتركيا (حكومة الإنقاذ والحكومة المؤقتة) بفتوى من المجلس الإسلامي السوري- استنبول التعامل بالليرة التركية بدلاً عن الليرة السورية.
وادعت تلك الجهات أنّ استبدال العملة السورية بالتركية سيحافظ على مستوى دخل الفرد في مناطق سيطرتها، إضافةً إلى الحفاظ على مدخرات الناس ومنع تدهور الوضع الاقتصادي، إلّا انّ الواقع بعد أربع سنوات اختلف كثيراً عمّا تمّ ترويجه في ذاك الوقت، وباتت تركيا هي المستفيدة الوحيدة من هذه العملية سياسياً واقتصادياً.
استنزاف العملة الصعبة من المنطقة
في عام 2020 حين اعتمدت الليرة التركية كعملة بديلة في المنطقة الممتدة من جرابلس وصولاً لعفرين وإدلب، كانت قيمة الليرة التركية 5.85 مقابل الدولار الأمريكي، وبعد أقل من عام فقدت مقدار 100 بالمئة من قيمتها لترتفع إلى 12 ليرة تركية مقابل الدولار الأمريكي، واليوم تتراوح قيمة الليرة من 32-33 ليرة للدولار الواحد، وهذا جلب معه ارتفاعاً زائداً في أسعار السلع الأساسية ضمن الجغرافية السورية الواقعة تحت النفوذ التركي، وتراجعت القدرة الشرائية لعامة الناس سواءً في عفرين أو المناطق الأخرى، نتيجة عدم ربط الرواتب التي تُدفع بالليرة التركية بالدولار او ما يقابله من العملة المتداولة.
يقول “حجي خلو” أن تجارته تأثرت كثيراً خلال السنوات الأربع الماضية، نتيجة تذبذب سعر صرف الليرة التركية، ويعتمد خلو على تجارة المواد الغذائية وغالبيتها العظمى هي من منشاء تركي وبالتالي يضطّر للتسعير بالليرة التركية، لكن الشركات التركية لا تتقاضى العملة التركية من خلو بل تجبره على الدفع بالدولار وهو ما يخلق ضغطاً أكثر، ويعتبر التبادل التجاري بين الشمال السوري المحتل والداخل التركي إحدى الطرق لسحب العملة الصعبة لصالح الاقتصاد التركي.
هل استفاد السوريون؟
بعد عام 2021 اتجّه غالبية الأهالي للادخار بالدولار والذهب بدلاً من الليرة التركية، لكن الواقع الذي فرضه الاحتلال على المنطقة وتحديد الرواتب بالليرة التركية سواءً تلك التابعة لما يسمى بالحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ في إدلب أو رواتب عناصر الميليشيات المدعومة من تركيا، والتي تتراوح بين 1500-2800 ليرة تركية، ما لا يكفي إعالة عائلة واحدة شهرياً… دفع الأهالي مرغمين للتعامل بالليرة التركية.
هنا ُيشير المحلل الاقتصادي “عبد الرزاق رمو” إلى أنّ السوريين في مناطق الاحتلال والنفوذ التركي لم يستفيدوا من تعويم الليرة التركية، لأن الاقتصاد التركي بحد ذاته يعاني الضعف وعدم الاستقرار، وهو ما سبب التضخم وتراجع القدرة الشرائية للأهالي، وإنّ العملة التركية في تراجع مستمر منذ 2020 إلى الآن، ولا توجد مؤشرات حالية لتحسّن وضعها في ظل الظروف التي تشهدها تركيا والمنطقة من توترات أمنية وعدم استقرار سياسي واقتصادي.
تبعية اقتصادية
وبحسب الاقتصاديين، الاستفادة الوحيدة عادت إلى تركيا، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا والشمال السوري المحتل مقدار (2) مليار دولار وفق “مركز كاندال” الذي نشر تقريراً عن الوضع الاقتصادي، وانتقد التقرير الذي حمل عنوان “التعاون الاقتصادي مع تركيا” تعامل الحكومة التركية مع الشمال السوري المحتل بطريقة ضبابية، إذ تفرض قيود اقتصادية عدة على تلك المنطقة وفقٍ لقوانين كانت تربطها مع النظام السوري قبيل احتلالها للأرضي السورية، وهذا يُشير إلى أن تركيا تتعامل مع تلك المنطقة كتابعة لها وتسعى للاستفادة منها دون إعطاء السوريين حرية النشاط التجاري والاقتصادي والاستقلالية، مما ينعكس سلباً على الناس هناك؛ ويرتبط تعامل أنقرة الاقتصادي هذا مع الشمال المحتل بالعامل السياسي، إذ أن فرض الليرة التركية على الشمال السوري يساهم في زيادة أوراق الضغط السياسي التركي في المنطقة وسوريا في المستقبل ايضاً.
لا أمان
تتوزع القطاعات الاقتصادية في مناطق الاحتلال والنفوذ التركي، لاسيما في عفرين، بين التجارة والإنتاج الزراعي وبعض الصناعات الصغيرة التي لا تلبي احتياجات السوق المحلية، إلّا أنّ تركيا تعمد إلى تصدير بعض المنتجات الزراعية السورية، لاسيما زيت الزيتون، إلى دول العالم تحت مسمى منتجات تركية عبر شركات سورية مرخصة ضمن الأراضي التركية، وبهذا تستفيد تركيا عبر شراء السلع الزراعية بالليرة التركية وبأسعار متدنية، وفي مجال التبادل التجاري العام مع دول العالم تحت مسمى منتجات تركيا، وهذا يعتبر دعماً للاقتصاد التركي وسرقة غير مباشرة للأهالي.
ويقول الخبير الاقتصادي مسلم طلاس المنحدر من كوباني، إنّ تركيا تستفيد من تعويم عملتها في الشمال السوري، ويضيف” أي شخص أو شركة ترضى التعامل بالليرة التركية، فهي تقرض البنك المركزي المصدر لتلك العملة بمقدار تعامله التجاري، وهو يعتبر دعماً مباشراً لتلك العملة”.
ولكن يقلل طلاس من مستوى الأمان بالعملة التركية في الوقت الراهن كون الاقتصاد التركي يعاني الضعف وعدم الاستقرار، وبالتالي السوريون ربما ندموا على اعتماد الليرة التركية بعد أربع سنوات ويتمنى البعض العودة لليرة السورية حالياً.
يبدو أن عودة الليرة السورية إلى تلك المناطق غير وارد نتيجة أسباب سياسية، فتركيا المحتلة للشمال السوري والداعمة لحكومة الإنقاذ في إدلب، تستثمر وجودها العسكري والاقتصادي هناك سياسياً على الساحة السورية والإقليمية، لا سيّما أنّ إدراج الليرة التركية في السوق المحلية السورية جاء نتيجة قرار سياسي من أنقرة، وهذا وفقٍ للمراقبين يدخل ضمن خطة تركية معقدة وطويلة الأمد، تستهدف البنية الاجتماعية والثقافية في الشمال السوري، بحيث يصبح كل شيء قريب من الثقافة التركية ومتأثر بها مباشرةٍ، وهو ما يمهد الطريق في المستقبل لبسط نفوذ تركيا على نحوٍ فعّال ومديد.
دمار حتمي
فالوضع الاقتصادي اليوم في عفرين المحتلة، شبه مدمّر وفق توصيف “خلو” الذي يضيف “ذوو الدخل المحدود باتوا اليوم يعيشون تحت خط الفقر، عدم توفر الأمان وانتشار الفساد والاختطاف جعل الناس في حالة لا يحسدون عليها، الاقتصاد منهار، الأمان مفقود والكردي منبوذ، كل هذا يدفعنا يومياً للتفكير في مستقبل أطفالاً ونتساءل هل يمكننا الاستمرار في هذا الوضع”.
ويؤكد “خلو” أن الناس اليوم في المناطق المحتلة مضطّرة للعيش ضمن هذه الظروف السيئة نتيجة عدم توفر البديل، وعن مستقبل التعامل بالليرة التركية يشير خلو إلى أن الغالبية العظمى من التعاملات اليوم تتم بالدولار ولاسيما تجارة السيارات والكميات الكبيرة من السلع وكذلك آجار المنازل وغيرها، لكن السوق المحلية والسلع اليومية تخضع لليرة التركية والناس مضطّرين لذلك، ويؤكد “أنه لا مستقبل لليرة التركية في عفرين والشمال المحتل نتيجة ضعف الاقتصاد التركي وعدم رضى الناس عن التعامل بها إلا أنها مفروضة على الجميع لأهداف سياسية وفق ما نسمعه ونفهمه”.
بالمحصلة تبدو الأوضاع الاقتصادية في المناطق المحتلة شبه مدمّرة، لأسباب عدة سياسية وأمنية واقتصادية، لكن الثابت الوحيد هو سعي تركيا لفرض نفسها كوصي على تلك المناطق من كافة المناحي والتحكم بمستقبل الأهالي هناك، ففي الوقت الذي تطالب فيه تركيا المنظمات الدولية لدعم سياستها الاستيطانية في المناطق المحتلة وإدخال العملة الأجنبية إليها، تعمد الى سحب تلك العملة بطرق أخرى لأجل تقوية اقتصادها، إضافةّ لنشر ثقافتها بكافة الأشكال في التعليم والخدمات وطراز العمران في كامل الشمال السوري المحتل، فهل سنشهد تحركاً سورياً مغايراً ينهي الوصاية التركية على الناس هناك؟!