عفرين بوست- تقارير
تداولت مواقعٌ للتواصل الاجتماعيّ مؤخراً صورة للمنسق التركيّ الخاص بالتعليم في عفرين المحتلة يحضرُ افتتاح مرسم خاص في المدينة، ما يُطرح السؤال عن دور المنسق التركيّ، وهل هو الوصي على سير العمل في قطاعه أما يسهّل العمل؟ أم أنّ المنسق هو الآمر الناهي وهو قبضة الاحتلال الحديديّة في المناطق المحتلة، لاسيّما في القطاعات الحسّاسة كالتعليم والأمن والصحة والعدل والمالية؟ سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات من خلال المعلومات المتوفرة عن آليّة إدارة الاحتلال التركيّ للمنطقة.
كيف بدأت؟
بعد التدخل التركي العسكري المباشر في سوريا عام 2016، وضعت تركيا استراتيجية مديدة للسيطرة على المناطق التي احتلتها عسكرياً رفقة فصائل وميليشيات سوريّة موالية لها، وأسست نظاماً إدارياً هشاً باسم “المجالس المحليّة” بإجراء انتخابات شكلية عبى نطاقٍ ضيق لتثبيت أعضاء معينين أصلاً، وربطت هذه المجالس بما تسمّى الحكومة السورية المؤقتة، ولكن الواقع خلال ما يقارب السبع سنوات أثبت أنّ مؤسسات المعارضة السوريّة والهياكل الإداريّة هي واجهة شكليّة مسلوبة القرار، ويديرها فعلياً منسقون أتراك تعينهم الحكومة التركية بشكلٍ مباشر.
وبالعودة إلى عام 2016 وإعلان تركيا بموافقة روسيّة شن عملية عسكرية على المنطقة الممتدة من جرابلس إلى أعزاز بحجّة طرد تنظيم “داعش” الإرهابي، وتم تأسيس مجالس محليّة بعد احتلالها، وربطها بالولايات التركية، بحيث يتبع كلّ مجلس ناشئ للولاية التركية المقابلة له على الطرف الآخر من الحدود.
وبعد الاحتلال التركيّ لعفرين في آذار 2018، ألحقت المناطق المحتلة إداريّاً بثلاث ولايات تركيّة، هي: غازي عينتاب، كلس، هاتاي. وأوكلت للولاة الأتراك ونوابهم مهمة متابعة سير العمل في كلّ مدينة وبلدة من جرابلس إلى عفرين.
اتبعت عفرين لولاية هاتاي، حيث يقوم الولاة الأتراك ومسؤولي مختلف القطاعات بزيارات دوريّة للمناطق المحتلة لأجل ترسيخ السياسة التركيّة وتنفيذ برامجها المختلفة.
“المنسق التركيّ يتحكم بكلّ صغيرة وكبيرة في القطاع الذي يشرف عليه، وتتسع صلاحياته للموافقة على التمويل وتنفيذ المشاريع أو رفضها، بما يتناسب مع السياسة التركية العامة وليس مع متطلبات المنطقة والأهالي”
ما دور المنسق؟
عيّنت سلطات الاحتلال منسقين عامين مرتبطين بالاستخبارات لكل منطقة (جرابلس وإعزاز والباب) وآخرها منطقة عفرين، لضمان مصادرة القرار المحليّ السوريّ، وينوبُ المنسق عن الوالي، وينسّق مع الاستخبارات التركية مباشرة، ويتبع للمنسقين العامين أشخاص آخرون من الأتراك كل منهم مكلف بالإشراف على قطاع معيّن سواء في قطاع التعليم أو الطاقة أو الصحة وغيرها من القطاعات الهامة، بشكل يُحكم سيطرة تركيا المباشرة على آلية اتخاذذ القرارات وتنفيذها على أرض الواقع.
تروّج سلطات الاحتلال التركيّ أنّ دور المنسق شكليّ وتنسيقي فقط، ويهدف لتسهيل العمل، لكن الواقع يثبت عكس ذلك، فالمنسق التركيّ يتحكم بكلّ صغيرة وكبيرة في القطاع الذي يشرف عليه، وتتسع صلاحياته للموافقة على التمويل وتنفيذ المشاريع أو رفضها، بما يتناسب مع السياسة التركية العامة وليس مع متطلبات المنطقة والأهالي.
يتفق التوصيف السابق مع ما قاله الباحث السوريّ “مناف قومان” في وقت سابق لمنصة “سوريا على طول” وتوصيفه العلاقة بين المجالس المحليّة (المحدثة) والولاة الأتراك بأنّها “ارتباط عضويّ تام، وليست ارتباطاً شكليّاً”، فالمجالس المحليّة، سواء كانت منتخبة أو معينة لا يمكنها اتخاذ قراراتها في الأمور الاستراتيجيّة دون الرجوع إلى الوالي التركيّ، والمجلس ملزمٌ بالتعامل مع الوالي التركيّ لإقرار مسائل الخدمات والمشاريع وحتى اتخاذ بعض القرارات التي تخدم سياسات الاحتلال.
وهؤلاء هم المنسقين الأتراك في عفرين “قاسم طاهر أوغلو منسق التربية والتعليم، محمد أرشيك منسق الرياضة، بولند مسؤول الشرطة، مصطفى منسق قطاع المياه والكهرباء والصرف الصحي، حسين مسؤول أمنية المجلس المحلي في عفرين”.
“المناهج المعتمدة مؤدلجة وتم وضعها في تركيا، ولا تخلو من تمجيد الدولة التركيّة وتاريخها العثمانيّ، وجاء فرض تعليم اللغة التركية بقرار من أنقرة”
قطاع التعليم نموذجاً
الصورة المتداولة للمنسق التركي “حسن دمير” الخاص بقطاع التعليم، نشرت ربما للترويج للمرسم، إلا أنه يُشير إلى أهمية المنسق في هذا القطاع، ووفقاً لحديث مدير مدرسة في أحد أحياء مدينة عفرين، أنّه منذ 2018، يُشرف المنسقون الأتراك الذين يتغيرون من وقت لآخر، على أدقّ تفاصيل العمل في مجال التعليم.
اللافت أنّ مديرية التربية في عفرين تنفرد بين مديريات التربية في المناطق المحتلة، بأنها تحمل اسم عملية عسكريّة وهو “مديرية التربية والتعليم في منطقة غصن الزيتون”، فيما لا تغييرَ في باقي مديريات التربية، والأمر ينطوي على تكريس اسم العملية العسكريّة وإمحاء هوية المنطقة الكرديّة، وبخاصة أنّ النسبة الأعلى للطلاب في عفرين هم أبناء المستوطنين.
المناهج المعتمدة مؤدلجة وتم وضعها في تركيا، ولا تخلو من تمجيد الدولة التركيّة وتاريخها العثمانيّ، وجاء فرض تعليم اللغة التركية بقرار من أنقرة، وأشرف المنسق التركيّ على تنفيذه بكلِّ حزم، إضافة لقيودٍ مباشرة على المدرسيين تحرمهم جزءاً كبيراً من حقوقهم المدنيّة.
بالاطلاع على بعض التفاصيل العامة في مجال التعليم، لاسيما المرحلتين الابتدائيّة والإعدادية في الداخل التركيّ ومقارنتها بما يحدث في عفرين، ثمّة قواسم مشتركة كثيرة بدءاً من القيود المفروضة على المدرسين، التي تمنعهم من إبداء الرأي والمشاركة في الاحتجاجات الشعبيّة والسياسيّة، وقيود ضمن المدارسِ وفقاً لتعليماتٍ صارمةٍ، تصل في بعض المدارس حدَّ منعهم من التحدث بالكرديّة مع الطلاب أو فيما بينهم.
حكم عسكري لقطاع تعليميّ
وفق معلومات أخرى أفاد بها مصدرٌ خاص لـ”عفرين بوست”، تم إلحاقُ مديريات التربية في الشمال السوري المحتل بمديريات التربية التركيّة بشكل كامل، ومُنعت ما تسمى بوزارة التربيّة في الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف من إدارة الملف، ومُنع مسؤولو هذه الوزارة من حضور اجتماعات هامة تخصُّ ملفَ التعليم، وتقتصرُ هذه الاجتماعات على حضور منسقي التعليم في المناطق المحتلة والوالي وجهاز الاستخبارات التركيّ.
في القطاع الصحي تم إلحاق كافة المشافي بما يقابلها من المشافي في تركيا، وتم تعيين عدد من المنسقين في هذا القطاع ووُزعوا على المدن، وحاله لا يختلف عن حال قطاع التعليم.
الغريب هنا أنَّ سلطات الاحتلال التركي أمرت بحلِّ نقابة المعلمين في عفرين وإعزاز، ولاحقاً في باقي المناطق، ومنعت تأسيس نقابات أخرى خاصة بباقي الاختصاصات والمهن، بحجةٍ غير مبررة، بأنّ هذه النقابات تدخل في خدمة السياسة، وجاءت هذه القرارات بعد تظاهرات قام بها المعلمون عام 2019 مطالبين فيها برفع الرواتب وإفساح المجال للمدرسين لإبداء رأيهم بالمناهج ومطالب أخرى.
القضاء مشوّه
منحت تركيا كامل الصلاحيات لمنسقيها في مختلف المناطق المحتلة، وبهذا باتت كلُّ منطقةٍ تُدار بشكلٍ منفصلٍ عن الأخرى في بعض الأمور، ويرتبط ذلك بمسألتين: مزاجية المنسق ومدى تساهله والولاية التي ترتبط بها المنطقة، فالقوانين في منطقة رأس العين/سري كانيه المحتلة تختلف عن عفرين وعن أعزاز، وربما يختلف الحال في بعض الجزئيات بين أعزاز وجرابلس وفقاً لمزاج المنسّق!
في القطاعات الأخرى الأكثر أهمية، العدل أو القضاء، رغم هامش المرونة والصلاحيات المحدودة الممنوحة للمحاكم، إلا أنّ هذا القطاع في المناطق المحتلة يخضع لعاملين أساسيين، أولهما نفوذ المنسق التركيّ وتحكمه بكلِّ قرارات المحاكم وتعيين القضاة وإعفائهم، والأخرى سطوة متزعمي الميليشيات على القضاء، ويتم إغلاق القضايا التي تهم الرأي العام ولا تُكشف تفاصيلها بأمر المنسق التركي خشية خروج الوضع عن السيطرة، وآخرها قضية مقتل القاضي العام في بلدة الراعي على يد عناصر من الميليشيات، حيث أغلقت القضية بشكلٍ مهينٍ بعد اتهام عناصر بقتله، نتيجة مشاجرة عرضيّة بينهما! وكذلك تمييع قضايا جنائيّة كبيرة تعدّ جرائم حرب بدوافع عنصريّة مثل مجزرة جنديرس التي وقعت عشية عيد نوروز 2023.
الجانب المدني في القضاء، لم يسلم هو الآخر من سطوة المنسقين الأتراك، إذ دفع المنسق التركيّ في عفرين وأعزاز ما تسمى وزارة العدل إلى إغلاق فرع نقابة المحامين الأحرار للمناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السوريّة المؤقتة مثل فرع دمشق وريف دمشق وفرع حمص وغيرها، واستنكر بعض المحامين هذا القرار وخرجوا في احتجاجات، ولكن قمعتها ميليشيا “الشرطة العسكريّة”.
وفي أواخر شباط 2023، شاركت مجموعة محامين بوقفة احتجاجية أمام المحكمة في مدينة الراعي، بسبب ما وصفوه “تدخل المنسق القضائيّ التركيّ في شؤون القضاء وعمل نقابة المحامين السوريين الأحرار، واطلاعه على وثائق النقابة الخاصة بعمل المحامين، بما فيها الوكالات القضائيّة”.
لا يتسع المجال هنا للحديث في الجانب الأمني الذي تتحكم فيه سلطات الاحتلال التركيّ بشكل كامل، سواء عبر الأجهزة الأمنيّة التي شكّلتها تحت سقف ما تسمّى الحكومة المؤقتة كالشرطة العسكريّة والمدنيّة أو الميليشيات الموالية لها وتحركها وفق مصالحها وضرب الميليشيات المعارضة لها.
العمل الإنسانيّ مشروط
الجانبُ الأكثر خطورة، هو سيطرة دولة الاحتلال التركيّ على منظمات المجتمع المدنيّ، ورغم العدد الكبير للمنظمات العاملة في الشمال السوري المحتل، إلا أنّ جميعها مجبرة على التعامل مع إدارة الكوارث والطوارئ التركيّة (آفاد)، وتُمنع أيّ جهة دون هذا التنسيق.
مدير بعثة طبيّة في منظمة عاملة في غازي عينتاب أشار إلى أنّ العمل الإنسانيّ أيضاً مرتبط بالتنسيقِ المباشر مع الجانب التركيّ، وقال: “المخيمات الرئيسيّة في المنطقة يديرها أشخاص من الجنسية التركيّة، ولدى المطالبة بالعمل ضمن المخيم، يُطلب منا مراجعة مديرية الصحة التركيّة في غازي عينتاب للحصول على رخصة العمل من هناك والتنسيق عبر “أفاد” ولا يسمح لنا حتى بنقل المعدات والأدوات مباشرة بل نسلمها لـ”آفاد” في تركيا.
رغم فرض تركيا هذه الشروط القاسية على المنظمات وحصر أعمال الإغاثة عبر مؤسساتها الرسميّة كـ” آفاد” والهلال الأحمر التركيّ، إلا أنّ المنظمات تعمل في الشمال السوريّ، بل يقدم بعضها منحاً ماليّة لبناء المستوطنات، وهذه المستوطنات موجّهة من قبل تركيا و”آفاد” بشكل مقصود لترسيخ سياسة التغير الديمغرافيّ في عفرين بشكلٍ خاص.
والمستغرب أنّه رغم تحكم “آفاد” بالقطاع الإنسانيّ وعدم قدرة أيّ شخص أو مؤسسة ومنظمة العمل دون موافقتها، إلا أنّها غابت عن الساحة السوريّة خلال أول أسبوعين من الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا في شباط 2023، ما أثار الكثير من التساؤلات، هل تهتم “آفاد” فعلاً بالجانب الإنسانيّ، أما أنّ وظيفتها الأساسيّة التحكم بهذا القطاع وتوجيهه لخدمة سياسات الاحتلال التركيّ؟! والحقيقة أنّ “آفاد” هي إحدى مؤسسات القوة الناعمة التركيّة ولا ينحصر نطاق عملها على سوريا، بل تمارس نشاطاً واسعاً في العديد من الدول وبخاصة الإفريقيّة والإسلاميّة، للترويج للسياسة التركية واختراق المجتمعات.
نشرت عفرين بوست تقريراً سابقاً عن تحكم تركيا في التحويلات الماليّة عبر مؤسسة البريد PTT، وتجبر المنظمات على تحويل مخصصاتها الماليّة عبر هذه المؤسسة بهدف ضبطها وتوجيهها ومراقبتها.
الانتفاضة أو قبول الواقع المشين
ما سردناه جزء يسير من تحكم سلطات الاحتلال التركيّ بمفاصل الحياة اليوميّة في الشمال السوري المحتل، وهذا يفضح بالوقت نفسه تغنّي المعارضة الممثلة بالائتلاف السوريّ المعارض بأنه يعمل على خدمة الشعب في تلك المنطقة، وادعائها أنّ المؤسسات القائمة سورية، فالحكم في الشمال السوري المحتل لا يختلف عن أيّ منطقة تحتلها دولة أجنبيّة، فهو يعمل على تتريك الهوية الوطنيّة للمنطقة سواء في عفرين المحتلة أو باقي الشمال السوري، فهل من المتوقع أن ينتفض السوريون في وجه الاحتلال ليتحرروا أم سيبقون رهين هذا الاحتلال المشين؟