عفرين بوست – خاص
تبرز اليوم خلافات عميقة بين متزعمي الميليشيات ذات البعد العربي السني في المناطق المحتلّة – شمالي سوريا من قبل تركيا، وبين متزعمي ميليشيات وشخصيات تركمانية مدعومة من تركيا بشكلٍ وثيق، وكانت هذه الحساسيات موجودة منذ أكثر من عامين، لكنها لم تظهر إلى العلن.
في الاجتماع الأخير الذي عقد بمدينة غازي عنتاب التركية بتاريخ 3/9/2024 بين قيادات ميليشيات “الجيش الوطني السوري” ورئاسة الحكومة السورية المؤقتة والائتلاف السوري المعارض ومسؤولين أتراك، لمناقشة الأوضاع الأخيرة في المنطقة المحتلة وفتح معبر الزندين – الباب، وقعت مشادات كلامية بين “عبد الرحمن مصطفى- رئيس الحكومة المؤقتة” المجنس تركياً ومتزعم ميليشيا “الجبهة الشّامية”، ووصف فيها “مصطفى” ميليشيات ذات بعد عربي بالخارجة عن القانون والتصرفات الغير المناسبة، داعاً لوضع حدّ لها، من ضمنها ميليشيا “أحرار الشرقية”.
كلام “مصطفى” هذا، صنّفه العديد من المتابعين بتوجيه البوصلة لتحجيم دور “الفصائل العربية السنية” وإعطاء الدور الأبرز للميليشيات التركمانية المدعومة من تركيا، لاسيّما بعد رفض “الجبهة الشامية” فتح معبر أبو الزندين بين مدينة الباب ومناطق سيطرة النظام السوري، وبهذا يبدو أن المشهد في مناطق الاحتلال التركي يتجه نحو إنشاء كيانات تركمانية بحتة تحت غطاء “الثورة السورية والمعارضة السورية”، فكيف مكّنت تركيا التركمان من قيادة “الثورة السورية”؟
التركمان في ركب “الثورة السورية”
بعد تعليق “الجبهة الشّامية” عبر بيان رسمي عملها مع “الحكومة المؤقتة” والمطالبة بحجب الثقة عن “عبد الرحمن مصطفى” وتشكيل “حكومة جديدة تستند إلى قاعدة شعبية حقيقة”، ومساندة بعض الجهات الأخرى كتجمع “ثوار الشّام” و”حركة الشرعيين الأحرار” موقف الشامية ضد الحكومة المؤقتة، لا توجد نية حقيقية لدى تركيا بتغيير عبد الرحمن مصطفى أو تغيير هيكلية سلطة أمر الواقع المدارة من قبلها في المناطق المحتلة من قبلها بشمالي سوريا.
بدأت تركيا منذ عام 2012 بتوجيه نشاط التركمان- لم يكن لهم نشاط سياسي بارز سابقاً- في سوريا إلى تنظيم تجمعات سياسية وعسكرية بغية استثمارها في الأزمة السورية التي عصفت بالبلاد، وكانت أولى الخطوات السياسية هو تأسيس “جمعية تركمان سوريا” في 15/12/2012 بمدينة إسطنبول، بدعم واحتضان تركيّ مباشر، واقتصرت العضويّة على أعضاء مستقلين من التركمان المغتربين، وفي 30/3/2013 تغير اسمها إلى “المجلس التركماني” مع انضمام “الحركة الديمقراطية التركمانية” و”الكتلة الوطنية التركمانية” و”حزب النهضة التركماني” إليها، بالإضافة إلى الميليشيات التركمانية.
وعود حكومية بدعم التركمان
وخلال الاجتماع التأسيسي الذي حضره وزير الخارجية التركي آنذاك “احمد داود أوغلو”، قالها أوغلو بكل صراحة إن تركيا تدعم جهود التركمان في سوريا وتدعوهم لتوحيد صفوفهم وتشكيل جسم واحد يكون له دور في مستقبل سوريا.
بعد هذا الاجتماع التأسيسي، بدأت تظهر أسماء تجمعات عسكرية تركمانية، غالبيتها تأسست في منطقة الساحل بريف اللاذقية ومنها (لواء السلطان عبد الحميد خان- لواء السلطان مراد- اتحاد السلطان سليمان شاه- لواء The Dirilis Osmanl- -الفرقة الساحلية الثانية- لواء الشهداء) وتدرج تأسيس هذه الالوية بين أعوام 2013-2017، وكان تواجدها في شمالي سوريا خلال تلك الفترة بسيطاً وضمن مجموعات صغيرة تتبع الألوية الأخرى.
بداية السطوة وتصفية الخصوم
لكن بعد احتلال تركيا منطقة الباب عام 2016، أصبحت للميليشيات التركمانية سطوة كبيرة، وبدأت بتنظيم نفسها بشكل كبير وجذب “الفصائل العربية السنية” الصغيرة إليها تحت عناوين الاندماج والاتحاد، لدرجة باتت “فرقة السلطان سليمان شاه –العمشات، وفرقة السلطان مراد/ وفرقة الحمزة” أكثر الميليشيات قوةً وانتشاراً في مناطق الاحتلال التركي.
واليوم تتوزع خارطة السيطرة في كامل مناطق النفوذ والاحتلال التركي بين ميليشيات محددة وهي هيئة تحرير الشّام التي تسيطر بشكلٍ كامل على إدلب، الجبهة الشامية في أعزاز والباب ومارع وصولاً إلى جرابلس، والعمشات والحمزات والسلطان مراد في عفرين والباب وجرابلس، وفيلق الشّام الذي يتركز تواجده في عفرين، إضافة لـ”أحرار الشرقية” التي قل نفوذها بعد حملة عسكرية قامت بها العمشات ضدها في عفرين وبات تواجدها محدوداً في أطراف أعزاز والباب، إضافة لبعض الفرق الصغيرة التي تدين بالولاء لإحدى القوى الرئيسية تلك.
والجدير ذكره أنّ حركة “أحرار الشّام” التي كانت الأقوى قبيل احتلال تركيا لعفرين تم تصفيتها من قبل الميليشيات التركمانية بحجة ارتباطها مع “هيئة تحرير الشّام”، وانشقت غالبية الكتائب الصغيرة منها وانضمت للفصائل التركمانية (القوة المشتركة).
وهناك عدة فصائل تتوزع السيطرة في مناطق كري سبي/تل أبيض – الرقة و سري كانيه/رأس العين – الحسكة.
توترات قادمة
يتوقع “أبو محمد” أحد عناصر “الجبهة الشامية” في أعزاز أن “تتزايد التوترات بين الشّامية والجناح التركماني في الحكومة المؤقتة التي تتهمها بالفساد”، واليوم تعاني مدينة أعزاز معقل الشامية من حالة ترقب حذر وسط توقف عجلة الحياة والاقتصاد في المدينة.
ويشير أبو أسعد المنحدر من بلدة سراقب ويسكن حاليا ً في أعزاز إلى أنّ الوضع في الشمال السوري بات متأزماً، من جهة هناك توتر بين الميليشيات المسيطرة ومن جهة أخرى هناك خوف كبير من تطبيع العلاقات بين النظام السوري وتركيا وأن يصبح سبباً في إحداث شقاق بين الفصائل المسلّحة، وهذا الأمر وارد جداً وفق أبو أسعد.
غالبية المراقبين للوضع الحالي في الشمال السوري والذي تأزم وبات منقسماً بعد إعلان فتح معبر أبو الزندين ونية تركيا تنشيط التجارة مع النظام السوري، يرون أنه خلال الأشهر القليلة القادمة لن يبقى الوضع بهذا الهدوء وربما يتحول لمواجهة عسكرية وذلك لأسباب عدة.
ما الأسباب؟
أبرز الأسباب هي بداية التطبيع بين النظامين السوري والتركي، وبطبيعة الحال المعارضين لهذا التطبيع سيخرجون في مظاهرات ولن تقف الميليشيات الموالية لتركيا مع المتظاهرين، وهنا ربما تحدث المواجهة أو يتعامل الأتراك مع هذه التظاهرات بأساليب استخباراتية وترهيبية كما فعلت في شهر أيار المنصرم.
والسبب الآخر هو المشروع التركي الغير العلني بإنشاء تجمع تركماني شبه صرف في الشمال السوري وتمرير أجنداته السياسية في سوريا مستقبلاً عبر هذه الكتلة، لاسيّما أنّ تركيا عملت على دعم حزب سياسي تركماني في سوريا على غرار الجبهة التركمانية في العراق، وهنا تقع الطامة الكبرى.
ترسيخ الوجود التركماني في عفرين
افتتحت ما تسمى “الحركة الوطنية التركمانية في غصن الزيتون” عام 2019، مكتباً لها في عفرين المحتلة، كنوع من الترسيخ للفكر التركماني في المنطقة، إذ تأسست الحركة في إسطنبول عام 2014، وبرز النشاط التركماني بوضوح منذ احتلال إقليم عفرين، ففي آب 2018 أسس التركمان مؤسسات وتنظيمات مثل “تجمع شباب تركمان سوريا”، الذي بدأ نشاطه في عفرين وافتتح معهداً دينيّاً باسم “معهد الفَتح المُبين”، في قرية كرزيليه/قرزيحل. وأظهر شريط فيديو نشره “التجمع” على صفحته الإلكترونيّة أطفالاً يرفعون شعارات ويتلون آيات قرآنيّة. كما تم افتتاح مقرٍ لما يسمى “المجلس الأعلى لتركمان سوريا” في مدينة عفرين، فيما تعمل منظمات تحت مسمّى “الإغاثة”، لتشجيعِ التركمان ومساعدتهم على الاستيطان.
وشجّعتِ القواتُ والحكومةُ التركيّة التركمان على التوجّه إلى إقليم عفرين، وتم توطين تركمان اللاذقية وحمص المرحّلين في القرى الكردية بعفرين وبالتحديد في ناحية بلبلة، وسعت أنقرة لإقامة مستوطنات لهم على شكل مجمعات سكنيّة بريف عفرين، وشجعتهم على شراء العقارات والأراضي، والاستملاك، ووفرت لهم مساعدات كبيرة، وقروضاً وتسهيلاتٍ إداريّة، ومكّنتهم من الوصول إلى قرى وبلدات جديدة هجرها أهلها بالكامل بداعي “أنّها منطقة عسكريّة” أو تقع قرب “المراكز العسكريّة” ومنحتِ التركمان وعوائل المسلحين الخاضعين لها الإذن للاستيلاء عليها.
وورد في تقرير نشره موقع “بلادي المعارض” في 29/7/2018، أنّ متزعمي الميليشيات التركمانيّة طلبوا منهم التوجّه إلى قرى عفرين، وقطعوا وعوداً على لسان شخصيات في المجلس الأعلى للتركمان بالتوطين في قرى الكُرد المُهجرين.
في 3/3/2020 اتهمت وزارة الدفاع الروسيّة، للمرة الأولى، على لسان رئيس المركز الروسي للمصالحة في سوريا، اللواء بحري أوليغ جورافلوف، سلطات الاحتلال التركي بأنها تقوم بتوطّين التركمان في مناطق طردت منها الأكراد، مما أدى إلى تغيير جذري في التركيبة الديمغرافية في تلك المناطق.
اعتمدت سلطات الاحتلال التركيّ على تركمان سوريا وبدأت مبكراً بصياغة قضية التركمان في سوريا، وقدمت كل وسائل الدعم، وتعاملت معهم على أساس أنهم مواطنون أتراك يحملون الجنسية التركيّة، وفي هذا الإطار جاء تأسيس المجالس والجمعيات التركمانيّة، فيما حظيت الفصائل العسكريّة التركمانية بدعمٍ استثنائيّ.
ويعد توطين التركمان في عفرين وبخاصة في القرى الحدودية في ناحية بلبله وميدان إكبس أخطر خطوات التغيير الديمغرافيّ، وهم معوّل أنقرة في أي محاولة لضم المنطقة واقتطاع الأراضي السوريّة.
تساؤلات محقة
هنا لا يسعنا إلا تنبيه الأخوة العرب من المخططات التركية الرامية لاستغلالهم في الوصول لغايتهم الأساسية وهي تمكين التركمان عسكرياً وسياسياً ليكون لهم موقع في الخارطة السورية القادمة، وكل ذلك على أكتاف العرب وتأجيج الصراع بينهم وبين الكُرد وإضعاف الجميع معاً، فهل سيحقق الأتراك مرادهم هذا، وهل سيحققون حلمهم بضم أجزاء من سوريا والعراق للعثمانية الجديدة وفق الميثاق الملي؟